أشعر بأسى كبير لأن احتفالية القدس عاصمة للثقافة العربية لم تحقق من التفاعل الثقافي العربي والدولي ما كان مرجواً، والعام يقترب من نهاياته، ولم نشهد بعد أعمالا ثقافية مهمة تليق بمكانة القدس في الثقافة العربية والإنسانية، وأنا لا أوجه لوماً إلى مسؤول ثقافي أو إلى مؤسسة بعينها، فالمسؤولية عامة وشاملة، مع تقديري لما تابعت من أنشطة خجلى بما فيها تلك التي قدمتها وزارتنا، لأن المطلوب من الأمة أكبر بكثير مما قدمت، فالقدس تستباح أمام أعيننا، ويتم تهويدها وطرد البقية الباقية من سكانها على مرأى العالم كله، وإذا كنا لا نملك أن نرد على العدوان، أو أن نقوم بفعل يوقف هذا التهويد المتصاعد، فإن أضعف الإيمان هو أن نعبر عن تمسكنا بحق أمتنا في القدس، وأن نفي بما لها في نفوسنا من مكانة مقدسة، وهنا يأتي دور الثقافة، وقد أخذه وزراء الثقافة العرب أمانة حين أقروا أن تكون القدس عاصمة للثقافة العربية لعام 2009. وكنت أرجو أن نشهد في هذا العام استجابات إبداعية في الشعر والرواية والمسرح والموسيقى والفنون التشكيلية ترتقي إلى سويّة الحدث الفاجع الذي نعيشه، ولا أقلل من شأن ما تم إنجازه فأنا أعلم أن هناك من قدموا أعمالا جيدة، لكنني أراها غير كافية في ميدان أمة عدد أبنائها نحو أربعمائة مليون مواطن يمتدون ثقافياً وعقائدياً إلى أمتهم الإسلامية التي يبلغ عدد أبنائها نحو مليار ونصف المليار. وحين أتأمل دور الإعلام العربي الذي باتت له من القنوات التلفزيونية أكثر من خمسمائة قناة فضلا عن الصحف والمواقع الإلكترونية التي تعد بالمئات، أجد أن ما خصص للقدس يكاد يكون لا شيء، وكان المؤمل أن تكون القدس شعاراً لكل الفضائيات العربية وعنواناً رئيساً في كل الصحف، وأن تكون جل برامج العرب الثقافية مخصصة لموضوع القدس. وإذا كانت المسؤولية الأولى تقع على عاتق الفلسطينيين فعلينا أن نقدر الظروف الصعبة التي يعيشها أهلنا في الأرض المحتلة، ونحن نكبر نضالهم وإصرارهم على بدء الاحتفالية في القدس، ونقدر ما عاناه المحتفلون من إيذاء الاحتلال الإسرائيلي لهم، والمطلوب في الاحتفالية بدء عمل عربي جاد للحفاظ على هوية القدس العربية والمسيحية والإسلامية، والبدء بترميم ما دمره الاحتلال من هذه الهوية، وإعادة بناء المؤسسات الثقافية في الداخل المحتل. وقد دعت إلى هذا الجهد مؤسسات فلسطينية، كما دعت إليه المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الأليكسو)، وبات مطلوباً أن تعلن الاستجابات السريعة قبل أن ينتهي عام الاحتفالية على رغم أن قضية القدس لا تنتهي بانتهائه. وما يحدث من ركود في برامج الاحتفالية يعبر عن حالة ضعف مريرة في الثقافة العربية. وعلى رغم تقديري للجهد الذي تبذله التجمعات الأهلية للاحتفال بالقدس إلا أنني أجده لا يحقق وحدة الموقف السياسي الذي أهّل الأمة لاتخاذ القرار بإعلان القدس عاصمة للثقافة، فثمة نقص في التمويل ونقص في البرامج المشتركة، مع إشادتي بالاستجابة الكريمة التي وجدناها من وزارة الثقافة في كل من دولة الإمارات ودولة قطر لتنفيذ برامج مشتركة مع وزارة الثقافة في سوريا، وأنا أدعو كل المؤسسات الرسمية والأهلية للعمل الجماعي وأن نعوض في الشهور القادمة حتى نهاية هذا العام ما فاتنا من تعاون لإنتاج برامج عن القدس تتجه إلى المتلقي الأوروبي بخاصة ثم إلى المتلقي في العالم كله. وقد بدأنا تعاوناً جيداً مع الجاليات الفلسطينية في أوروبا عبر تقديم معرض جوال عن القدس يتنقل بين العواصم، لكن الأمر يحتاج إلى توسع في النشاط، وإلى مساهمات عربية تشترك فيها كل الجاليات العربية والصديقة، فمسؤولية الاحتفالية تقع على عاتق كل مواطن عربي عليه أن يسأل نفسه: ماذا بوسعه أن يقدم؟ وأكبر حجم معنوي من المسؤولية يقع على عاتق المبدعين في مختلف مجالات الفنون والإبداع، والاحتفالية كذلك مسؤولية إسلامية وإنسانية لكون القدس مقدسة عند الديانات السماوية، وتهويدها عدوان على كل الديانات وعلى كل الأمم والشعوب المسيحية والإسلامية التي نجد لها حقاً روحياً في القدس يوازي الحق العربي. ولكوننا نحن العرب أصحاب القضية بامتياز فمن واجبنا أن نثير إحساس الآخرين بالمسؤولية، وأن ندعوهم إلى المشاركة في برامجنا، وأن نقيم في كل عواصم العالم الإسلامي احتفالات ثقافية بالقدس. وحسبنا في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ المواجهة مع الاحتلال أن نعبر عن رفض شعوب العالم لما ترتكبه إسرائيل من جرائم عنصرية، وأن نرسخ في الوجدان العربي حقنا الذي أقرته الشرعية الدولية، وأن نؤازر بالفعل والعمل أشقاءنا من أهل القدس وهم يواجهون وحدهم أبشع أنواع التمييز والقتل والإرهاب. ولقد وجدت غياباً أو تغييباً للإبداع الفلسطيني الراهن عن الثقافة العربية وعن الإعلام العربي، ولدى البحث فوجئت بسوية عالية للإبداعات الفلسطينية الجديدة التي لم تحظ بما يليق بها من حفاوة النقد والترويج الإعلامي، وكانت مفاجأتي الأولى هذا العام بمسرحية مقدسية شاهدتها في مهرجان فني أقمناه ضمن برامجنا الاحتفالية بالقدس، وهي مسرحية بعنوان "الأحداث الأليمة في حياة أبي حليمة" وقد كتبت عنها بوصفها نموذجاً من إبداع الداخل، وأشرت إليها لأن الإبداع الذي وجدته فيها يغني عن عشرات المقالات التي تملأ الصحف وتضيع بعد قراءتها. ومثل هذه المفاجآت الإبداعية كثيرة في الرواية الفلسطينية وفي الأغاني الشعبية، وهي ما ينبغي أن تهتم به برامجنا الاحتفالية في كل عواصمنا العربية. وأنا لا أدعو المؤسسات الثقافية الرسمية وحدها للبحث عن هذه الإبداعات بل أدعو الأدباء والنقاد والباحثين للاهتمام بما يبدعه أهلنا في الداخل، وأن يطرحوه على منابر الثقافة وعبر فضائياتنا العربية التي غرق كثير منها في برامج اللهو الرخيص وباتت عبئاً على الثقافة بدل أن تكون رافداً ضخماً لها. وأرجو من الزملاء الإعلاميين إنتاج برامج خاصة ونوعية عن القدس بمختلف اللغات الحية، وأن يوجهوا أنشطتهم لتعريف الجيل الشاب بحقه التاريخي ولكشف الجرائم التي ترتكبها إسرائيل عبر مشاريعها الاستيطانية التي تخالف بها كل الشرائع، بل هي اليوم تتحدى المجتمع الدولي كله. والمفارقة أنها باتت تتحدى بريطانيا التي أعلنت بوضوح رفضها للتوسع في الاستيطان وهي الدولة التي منحت اليهود دولة إسرائيل، وسمحت لهم بتشريد شعب فلسطين. إن إصرار إسرائيل على تهويد القدس وما يتم على الأرض من فرض لواقع قسري سيصير مع الزمن حقاً مفتعلا لمن فرضوه، يتطلب عملا جاداً ودؤوباً من أهل الثقافة يسد غياب أهل السياسة الذين لم يتمكنوا من تحقيق وحدة موقف قوية ضد سياسة التهويد. والعمل الثقافي يمتلك من حرية الحركة ما يؤهله لتقديم بدائل ليست قليلة الأهمية، فإذا كانت السياسة تعمل على أهداف التفاوض التي سدت أبوابها فإن الثقافة مفتوحة الأبواب دائماً، ولا يملك أحد أن يسد نوافذها المشرعة. والسؤال الذي يجب أن يطرح على مستويات رسمية وشعبية هو: هل نحن مقتنعون بأن ما قدمناه من عمل للقدس يكافئ حجم العدوان عليها ويقدر على صده في الوجدان على أضعف الإيمان؟ وهل يكافئ إمكاناتنا الضخمة ثقافياً وإعلامياً إن لم أقل بشرياً؟