دافع الرئيس أوباما مؤخراً عن الحرب في أفغانستان باعتبارها \"حرباً ضرورية\" وليست \"حرباً اختيارية\"، مستعيراً هذا التمييز الخادع والمزيف بين الحربين من \"ريتشارد هاس\"، مدير مركز مجلس العلاقات الخارجية ومؤلف كتاب مشهور حول الموضوع، ولكن \"هاس\" نفسه الذي أدرك خطأ هذا التقسيم وصعوبة اللجوء إليه لفهم الحروب الأميركية، أو إضفاء بعض الشرعية الأخلاقية عليها، سرعان ما تدخل لتصحيح طرح الرئيس، معتبراً أن الحرب في أفغانستان ليست \"حرباً اختيارية\"، واصفاً الحرب في مقال له نشرته \"نيويورك تايمز\" بأنها من \"اختيار أوباما\". والحقيقة أن الرئيس باعتماده تقسيمات مثل هذه بين حرب ضرورية وأخرى اختيارية إنما زج بنفسه في نفق مظلم كان من الأفضل له أن يتجنبه، ذلك أنه على امتداد التاريخ الأميركي لم تكن هناك سوى حروب قليلة يمكن وصفها بالضرورية، هذا إن كانت موجودة أصلا، فمنذ حرب الاستقلال كان أمام المستوطنين والبريطانيين خيارات أفضل من الحرب، لاسيما على الجانب البريطاني، بل حتى الحرب الأهلية اعتبر بعض المؤرخين أنها كانت كارثية وغير ضرورية أريقت فيها الدماء الأميركية على نحو غير مبرر، ويقولون إن ممارسة الرق كانت ستختفي على كل حال من تلقاء نفسها، وينبغي أيضاً ألا ننسى حرب المكسيك، والحرب الأميركية الإسبانية، ناهيك عن التدخلات الكثيرة في أميركا الوسطى والكاريبي، بل حتى المشاركة في الحرب العالمية الأولى لم تكن هي أيضاً في نظر البعض ضرورية. ومع أن \"هاس\" يجتهد في التفريق بين الحروب الضرورية والأخرى الاختيارية إلا أن تقسيماته أيضاً لا يمكن الأخذ بها على وجه الإطلاق، فهو يسوق على سبيل المثال حرب الخليج الأولى باعتبارها \"حرباً ضرورية\" لا غبار عليها، وقد أعلن رموز الواقعية السياسية وقتها في الإدارة الأميركية سواء رئيس هيئة الأركان المسلحة، كولين باول، أو 48 عضواً من أعضاء مجلس الشيوخ، أنه كان بإمكان الولايات المتحدة \"احتواء\" صدام، وبالطبع لم تكن تلك سياسة آمنة لما كان سيترتب عليها من تداعيات سلبية على المنطقة والعالم، وفي المقابل كان الوضع في المنطقة سيتدهور أكثر لو لم تتدخل الولايات المتحدة في حرب 2003 وتنهي حكم صدام منذ ست سنوات. وفي نظري ليس هناك ما يبرر الحرب حتى لو تعلق الأمر بتراجع استراتيجي للولايات المتحدة في منطقة من مناطق العالم لأن المسألة متعلقة أكثر بالتكلفة التي نتكبدها جراء الحروب، فلربما كانت الولايات المتحدة مجبرة على التدخل للدفاع عن كوريا الجنوبية في عام 1950، وهي الحرب التي يعتبرها \"هاس\" ضرورية، لكن ما كان العالم لينتهي لو لم نفعل، لاسيما وأن الولايات المتحدة وحلفاءها في الغرب عانوا أكثر من نشر الاتحاد السوفييتي للجيش الأحمر على طول أوروبا الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك لم يدَّع أحد الحاجة إلى الدخول في حرب مع ستالين في عام 1945. والحقيقة أنه ما لم تتعرض البلاد للغزو أو لتهديد وجودي داهم يبقى دائماً الذهاب إلى الحرب مسألة اختيار، فما الذي يدفعنا إذن إلى إقامة تقسيمات واهية بين الضروري والاختياري؟ الهدف بالنسبة لكثيرين، ومن بينهم أوباما، هو التمييز بين حربي أفغانستان والعراق؛ بين حرب أوباما \"الجيدة\"، وبين حرب بوش \"السيئة\"، فكما يذهب إلى ذلك \"هاس\" لن تنجح الحربان لأنهما معاً اختياريتان. لكن هناك أسباباً أعمق تدفع أوباما إلى التعامل مع الحرب في أفغانستان على أنها حرب اختيارية متمثلة فيما يبدو على أنه رغبة في التمسك بنوع من الطهرانية الأخلاقية في الشؤون الدولية من قبل هذه الإدارة، ومن هنا نفهم اعتذار أوباما وكبار مساعديه عن أخطاء أميركا السابقة في إشارة ضمنية إلى أن إدارته لن تكرر تلك الأخطاء، وهو ما ينطبق على خوض الحروب. فهم يعتقدون أنه لا أحد يستطيع لومهم إذا كانت الضرورة هي التي تملي الحرب، أما الأضرار الملازمة، والتي لا يمكن تفاديها خلال الحرب من قتل المدنيين وإساءة تصرف الجنود أحياناً إلى أخطاء القادة العسكريين، فيمكن التساهل بشأنها بسهولة إذا تبين أنه لا خيار آخر. وهكذا تمحو مزاعم الحرب الضرورية الالتباس الأخلاقي الذي يصاحب كل ممارسة للسلطة، بل هي تحول دون التعمق في الدوافع الحقيقية للحرب، تلك الدوافع التي نادراً ما تكون طاهرة سواء تعلق الأمر بالأفراد، أو الدول. لكن هذا السعي إلى التهرب من الأعباء الأخلاقية دائماً ما يكون مجرد سراب، فأن تعين أميركا بأن أمراً ما كان ضرورياً فهذا لا يعني أن باقي العالم، لاسيما الضحايا، سيصدقون ذلك، فادعاء الضرورة لن يعفي الولايات المتحدة وأوباما من تحمل مسؤولية أفعالهما. وكما أشار إلى ذلك رجل الدين الأميركي \"رينهولد نيبور\" يجد الأميركيون صعوبة في الاعتراف بالحيرة الأخلاقية المتولدة عن ممارسة السلطة، وهم يجهلون أنه فقط من خلال هذا اللبس الأخلاقي يمكن الوصول إلى الخير، فأوباما محق في حرب أفغانستان، بل عليه أن يسعى إلى الخروج بنتائج إيجابية، لكن ذلك لا يعني أن عليه التنصل من الأعباء الأخلاقية بادعائه أن الحرب كانت ضرورية، ذلك أن صواب فعل ما أو عدالته لا يرتبط بمدى ضرورته، ولذا على أوباما وعلى غرار باقي الرؤساء الكبار أن يوضح لماذا يبقى اختياره للحرب، على رغم ما يكتنفه من صعوبات وتعقيدات، هو الأفضل والأنسب بين جميع الخيارات الأخرى. ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست\"