في عام 2005 بدأ وباء إنفلونزا الطيور (H5N1) في اجتياح العالم، انطلاقاً من جنوب شرق آسيا. وسرعان ما هرعت حكومات العديد من الدول إلى تخزين كميات هائلة من عقار تاميفلو (Tamiflu)، خشية أن يتحول الوباء (epidemic) إلى جائحة (pandemic) لا تبقي ولا تذر. وعلى رغم المخزون الهائل الذي نجحت بعض الدول في جمعه، إلا أن الجميع كانوا على دراية بأنه لن يكون كافياً أبداً في حماية الجميع ضد المرض. وسرعان أيضاً ما دخل اسم عقار "تاميفلو" الثقافة العامة، وأصبح اسمه يتردد خلال الأحاديث اليومية، بعد أن ضجت وسائل الإعلام بذكره على مدار أسابيع وشهور. وفي النهاية، وحسب بعض التقديرات، تلقى أكثر من خمسين مليون شخص العقار، 35 مليونا منهم في اليابان وحدها. ومثل هذا السيناريو تكرر إلى حد كبير، بعد ظهور وباء إنفلونزا الخنازير (H1N1) في أبريل من العام الحالي، انطلاقاً من المكسيك. حيث هرعت الحكومات المختلفة لتعبئة مخزونها من (التاميفلو)، وصرفت مئات الآلاف -وربما الملايين- من الجرعات العلاجية حول العالم. وإن كان هذا السلوك -مثلما كان الحال مع إنفلونزا الطيور -قد أثار القلق لدى الكثير من الخبراء والمتخصصين في هذا المجال. ولكي نفهم مصدر القلق هذا، لابد أن نسترجع بعض المعلومات الأساسية عن "التاميفلو"، وعن المجموعة الدوائية التي يندرج تحتها، والتي تعرف بمضادات الفيروسات (Antiviral Drugs). وفي البداية، يلزم التنبيه إلى أن هذه المجموعة الدوائية تختلف اختلافاً تاماً عن المجموعة الأخرى الأكثر شهرة، أو مجموعة المضادات الحيوية (Antibiotics). حيث يقتصر تأثير مضادات الفيروسات على الفيروسات فقط، على عكس المضادات الحيوية التي تؤثر على البكتيريا. وهو ما يدحض الاعتقاد الخاطئ والمنتشر إلى حد كبير، بأنه يمكن علاج نزلات البرد العادية، أو الإنفلونزا، أو حتى بعض أنواع التهابات اللوزتين، باستخدام المضادات الحيوية. فهذه الأمراض هي أمراض فيروسية، مما يجعل المضادات الحيوية عديمة الجدوى في علاجها. وتعود ممارسة صرف مضادات حيوية للمصابين بتلك الأمراض، كإجراء احترازي بسبب المخاوف من أن تضاف عدوى بكتيرية فوق العدوى الفيروسية (Secondary Infection)، بسبب ضعف حالة الجسم حينها، وانشغال جهاز المناعة بمكافحة العدوى الفيروسية الأولية. وإن كانت هذه الممارسة الطبية الشائعة جداً، مشكوك في جدواها وفعاليتها إلى حد كبير، حيث يعتقد البعض أنها تؤدي إلى آثار سلبية، بسبب أن الإفراط في استخدام المضادات الحيوية، يؤدي في النهاية إلى تولد مقاومة ضدها تفقدها فعاليتها تماماً. والفارق الآخر بين مضادات الفيروسات، والمضادات الحيوية، يتمثل في أن مضادات الفيروسات لا تقتل الفيروسات، بل تعيق نموها وتكاثرها ليس إلا، على عكس المضادات الحيوية التي تقتل البكتيريا وتخلص الجسم تماماً منها. ويختلف مضاد الفيروس أيضاً في كونه غالباً ما يكون محدداً ضد نوع واحد من الفيروسات فقط لا غير، على عكس المضادات الحيوية التي يمكن للنوع الواحد منها التخلص من عدة أنواع من البكتيريا. ولكن بخلاف هذه الفروق، توجد صفة مشتركة بين مضادات الفيروسات والمضادات الحيوية، وهي قدرة كل منهما على توليد مناعة ضد العقار المستخدم. وفي حالة المضادات الحيوية، يمكن للبكتيريا المسببة لمرض ما، أن تتمتع بمناعة ضد عدة أنواع من المضادات الحيوية، لينتج ما يعرف بـ "السوبر بكتيريا". أما في حالة الفيروسات، فيمكنها أيضاً أن تولد مناعة ضد مضادات الفيروسات. وهذه الحقيقة يظهرها بشكل جلي، تمتع 99.6 في المئة من أنواع فيروس (H1N1) المسببة للإنفلونزا العادية، بمقاومة ضد التاميفلو. وهو ما يثير مخاوف من أنه إذا ما كانت جميع أنواع (H1N1) المسببة للإنفلونزا العادية -تقريباً- قادرة على مقاومة التاميفلو، فمن الممكن أن تنجح الأنواع الحديثة من الفيروس -والمسؤولة عن إنفلونزا الخنازير- هي الأخرى في توليد مناعة ضد العقار تفقده فعاليته. وبما أن الإفراط وسوء الاستخدام، يعتبران العاملين الرئيسيين والأساسيين خلف توليد مناعة ضد مضادات الفيروسات أو المضادات الحيوية، أصدرت منظمة الصحة العالمية بداية هذا الأسبوع إرشادات وتوصيات يجب اتباعها في استخدام مضادات الفيروسات، إذا ما كان لنا أن نتجنب خسارة فعالية "التاميفلو" في معركتنا الجارية ضد فيروس إنفلونزا الخنازير. وأهم تلك التوصيات، ربما كان ضرورة قصر استخدام "تاميفلو" على الحالات الأكثر عرضة للمضاعفات الخطيرة، مثل الأطفال الأقل من خمس سنوات، أو من هم فوق سن الخامسة والستين، والحوامل، والمصابين بأمراض مزمنة مثل السكري والأزمة الشعبية، والمصابين بالإيدز وغيره من اضطرابات نقص المناعة. وهو ما يعني أنه لا حاجة لعلاج كل حالة تصاب بإنفلونزا الخنازير باستخدام مضادات الفيروسات، إلا إذا كانت هذه الحالة ضمن مجموعات الخطر سابقة الذكر، أو إذا ما تدهور الوضع الصحي للمصاب بشكل حاد. فحتى الآن، لازالت إنفلونزا الخنازير مرضاً تتعافى الغالبية العظمى ممن يصابون به خلال أيام قليلة، ودون أي تدخل طبي. أما الإفراط وسوء استخدام مضادات الفيروسات، فسيؤديان في النهاية إلى تولد مقاومة لدى الفيروس، وهو ما سيشكل كارثة إذا ما تحول المرض إلى شكل أكثر شراسة مما هو عليه حالياً.