عندما تضاعفت أسعار النفط في أواسط السبعينيات تكوّن في حينه ما سمي بـ \"البترودولار\" أو الفوائض المالية الناجمة عن عائدات النفط الهائلة لدى البلدان المصدّرة، حيث وجد جزء من هذه الفوائض طريقه للأسواق العالمية، وذلك كنتيجة طبيعية لعدم قدرة البلدان المنتجة للنفط على استيعاب هذه الأموال في الأسواق الداخلية التي لم تكن مهيأة لمثل هذه التطورات المفاجئة في صناعة النفط العالمية. وفي تلك السنوات انتقدت البلدان النفطية وبشدة لعدم استثمارها في البلدان النامية، وبالأخص البلدان العربية، وذلك على رغم أن الأنظمة والتشريعات الاقتصادية في البلدان النامية في ذلك الوقت، ومن ضمنها العربية، لم توفر الحماية والضمانات اللازمة للاستثمارات الأجنبية، هذا ناهيك عن عدم الاستقرار في هذه البلدان. والحال أن الأمور تغيرت في العقود الثلاثة الماضية وأصبح الاستثمار في البلدان النامية جذاباً إلى حد بعيد، كما ساعدت بعض التطورات، كارتفاع أسعار الغذاء في العامين الماضيين في إعادة النظر في الخريطة الاستثمارية للبلدان النفطية، وبالأخص بلدان الخليج، وذلك من منطلق الاهتمام بالأمن الغذائي وتوفير مصادر إمدادات غذائية مضمونة من خلال الاستثمار في القطاع الزراعي في الدول النامية، كالسودان ومصر وباكستان وتايلند. ويبدو أن مثل هذه التطورات والتعاون الاستثماري بين البلدان النامية أثار حفيظة مراكز المال في العواصم العالمية، التي تشكل حركة الأموال حول العالم مركز اهتمامها وثروتها الحقيقية، فعمدت إلى تشويه صورة هذا التوجه التعاوني بين البلدان النامية، حيث كتبت صحيفة \"الإندبندنت\" في بداية شهر أغسطس الماضي أن \"هناك نوعاً جديداً من الاستعمار في العالم، حيث تقوم الدول الغنية بشراء الموارد الطبيعية للدول النامية التي لا تستطيع استغلالها، وخصت بالذكر دول الخليج التي وجدت، حسب رأي الصحيفة، أن وارداتها الغذائية قد تضاعفت تكلفتها على مدار أقل من خمس سنوات\". ومن الواضح أن ذلك نوع من التحريض الرخيص ضد دول الخليج، والذي نرجو ألا تعيره البلدان النامية المستقبلة للاستثمارات الخليجية أية أهمية، فالتوجهات الاستثمارية الخليجية، هي توجهات صادقة تسعى إلى تطوير التعاون مع البلدان النامية، وبالأخص العربية في أكثر من مجال، فهناك فرص استثمارية واعدة، حيث يمكن لرؤوس الأموال الخليجية أن تساهم في تنمية العديد من القطاعات وتوفر ملايين فرص العمل وفي الوقت نفسه تضمن لنفسها إمدادات غذائية في ظل أزمة الغذاء العالمية المرشحة للتعقيد. وإذن أين يكمن الخلل في هذه العلاقات التعاونية المفيدة للطرفين والقائمة على مبدأ التكافؤ والاستفادة المتبادلة والمصالح المشتركة؟ وخصوصاً أنها تأتي في ظل الأنظمة والقوانين الاستثمارية المعتمدة من السلطات التشريعية في البلدان النامية والتي تراعي مصالح بلدانها في المقام الأول، في حين تقوم العلاقات السابقة بين المركز والأطراف على تغليب مصالح طرف على طرف آخر، وهو ما لم تتسم به العلاقات الاقتصادية القائمة بين بلدان الخليج والبلدان النامية، والتي تحكمها المصالح المشتركة وتبادل المنفعة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الوقائع التاريخية والموضوعية لا تؤيد ما ذهبت إليه \"الإندبندنت\"، فدول الخليج وعلى مدى أكثر من خمسين عاماً قدمت عشرات المليارات من الدولارات، كمساعدات للبلدان النامية من خلال صناديق التنمية، كصندوق أبوظبي للتنمية والصندوق الكويتي الذي تأسس في بداية الستينيات، حيث تم تنفيذ مئات المشاريع التنموية في البلدان النامية، كما قدمت دول الخليج مليارات أخرى من خلال صناديق إقليمية، كالبنك الإسلامي للتنمية وصندوق \"الأوبك\". إما إذا ما أخذنا حصة المساعدات التي تقدمها البلدان الغنية في العالم، كنسبة من الدخل القومي، إن هذه النسبة لا تتجاوز نصفاً في المئة في البلدان الصناعية المتطورة، في مقابل 3 في المئة في دول مجلس التعاون الخليجي، وهي نسبة كبيرة إذا ما قورنت بعائدات دول الخليج العربي. أما الحقيقة التي حاولت \"الإندبندنت\" تجاهلها فهي أن خريطة العالم الاستثمارية بدأت تتغير، وبالأخص بعد الأزمة المالية العالمية، التي خسرت خلالها بلدان العالم آلاف المليارات من الدولارات، مما حدا بها إلى إعادة النظر في توزيع استثماراتها لتقليل المخاطر، حيث توفر البلدان، وبالأخص الناشئة منها، كالهند والصين وبلدان أميركا اللاتينية فرصًا استثمارية مجزية. ثم إن إعادة توزيع الاستثمارات لا تعني تخلي البلدان الصناعية في الغرب عن دورها، إذ ستبقى مركز الجذب الأول والرئيسي للاستثمارات الأجنبية، وذلك بفضل الأنظمة والقوانين الاستثمارية المتطورة والمرنة، وبفضل اقتصاداتها المتقدمة وفرصها الاستثمارية اللامحدودة. إن ذلك يعني أن المنافسة في استقطاب رؤوس الأموال الأجنبية ستشتد في الأسواق العالمية في الفترة المقبلة، ومن هذا المنطلق يمكن فهم رسالة صحيفة \"الإندبندنت\" التي تحاول التحذير من مخاطر وهمية في محاولة لجذب المزيد من الاستثمارات للأسواق التقليدية.