في كل صيف تُشد الرحال إلى الأماكن الأكثر برودة في العالم العربي، بالنسبة لأصحاب الدخل المحدود من سواد الأمة، وإلى أميركا وأوروبا بالنسبة للأثرياء والميسورين. وعندما يتواجد الإنسان العربي -متواضع الدخل- على الحدود العربية، مسكين يريد أن \"يحلل\" قيمة التذكرة، فيتجول عبر طريق البر من هنا أو هناك! حيث قد يجد العجب العجاب، ويجد حال الأمة (مُصغرة) في تلك الحدود. فأول ملاحظة يمكن أن يلمحها الإنسان هي غياب النظام وشيوع الفوضى، وكأن الموظفين يعيشون في القرون الوسطى. وبغياب النظام أو اعتماد مسؤولي النظام على عدم النظام، يمارس العابرون عبر تلك الحدود عدم النظام. فمسافر يتجاوزك -وأنت واقف في الطابور- ليصل إلى \"كاونتر\" موظف الجوازات متجاهلا كل الواقفين قبله لأكثر من ساعة. وإن تحدثت معه رمقك شزراً وقال لك: أنت مين عينك شرطي هون؟ والموظف خلف \"الكاونتر\" يقلب جوازات السفر المتراكمة يميناً وشمالا، وهو يأسى لحال الكمبيوتر الذي يتحرك حركة النملة، لأن السرعة بطيئة! حيث قد يأخذ أكثر من عشر دقائق في ختم جواز سفر واحد. ناهيك عن تعطل الأجهزة وقِدمها، وكثرة المعلومات المطلوبة على البطاقة. إذ مع هبوب رياح \"إنفلونزا الخنازير\" بدأت بعض الدول فرض تعبئة بطاقات خاصة -ذكّرتنا ببطاقات تطعيم الكوليرا الصفراء في السبعينيات- وهي بطاقات شكلية ليس لها أي اتصال بمحاصرة إنفلونزا الخنازير، بل إنها تعطل المسافر دون مبرر. حيث لا يتم فحص المسافر ولا تخرج عائلته من السيارة. بل يقوم رب الأسرة بتعبئة البطاقة وتقديمها لموظف الصحة، الذي يعتمد (يدوياً) على المعلومات المكتوبة في البطاقة. حتى وإن كانت تلك المعلومات غير دقيقة. والأمر الثاني، في بعض الحالات العربية، هو الرشوة! فأنت إن لم تدفع لأحدهم -وما أكثرهم- ستظل \"ملطوعاً\" على الحدود ولساعات طويلة وتظل تعاني الازدحام والغضب الصادر من المسافرين المتذمرين، فتقوم بتقديم جواز سفرك \"ملغماً\" بالمقسوم كي يبتسم في وجهك موظف الجمارك أو الجوازات -أو قد يتجهم ويعاتبك ويضرب بيده على \"الكاونتر\" يريد المزيد- وإن لم تفعل ذلك يتركك -بعد أن وقفت لأربعين دقيقة أو أكثر- ليذهب ليدخن سيجارة في الخارج، أو يشم هواء نقياً خارج \"الزريبة\" التي تجمّع فيها المسافرون. وإذا انتهيت من الجوازات بعد لأْيٍ، تأكل وجهك النظرات التي لا تخجل، بل قد يتعدى ذلك لمواجهتك بضرورة دفع \"الإكرامية\" كي تمر! وإلا فلسوف يكتشفون لك ألف عذر أو مشكلة كي تتأخر وتتذمر وتلعن أبو السفرة تلك. والأمر الأكثر إزعاجاً في الموضوع هو ظهور \"الأحقاد\" لدى بعض العرب تجاه العرب الآخرين. فقد صادف أن كنا واقفين في الطابور الطويل، وجاءت مجموعة من النساء والأطفال من طائفة غير مسلمة -ويحملون جوازات سفر دولة عربية- وتجاوزوا كل الواقفين في الطابور وقدموا أكثر من 30 جواز سفر لمأمور الجوازات. وصادف أن حاول أحد الخليجيين إشعارهم بأن يلتزموا بالطابور! وهنا ثارت ثائرة أولئك النسوة، وكن قد تجاوزن الخمسين من العمر، قالت إحداهن للأخرى: \"شكلهم عراقيين\"! وكانت تقصد الخليجي الذي دعاهم بكل أدب للالتزام بالطابور، فردت الأخرى: لا، هذوله خليجيين؟ ردت الأخرى: الفلوس عامية عيونهم! الحياة ليست كلها فلوس.. وتوالت \"الاتهامات\" ضد الخليجيين المسافرين وبشكل هجومي وشرس غير مبرر. بل لقد كان رجل دين يجول بين المسافرين ولا يأبه بما يصدر عن أولئك النسوة من دينه. فقط بسبب أن أحد الخليجيين رجاهم أن يلتزموا بالطابور. ووصل الأمر بإحدى السيدات إلى القول: هذوله ما يصلوا قصدهم.. يعلهم يموتوا في الطريق! التفت أحد الإخوة من نفس جنسيات أولئك النسوة وقال لهن: عيب انتو حريم، ما يجوز تتكلموا هيك.. الرجال ما غلط عليكم.. يجب أن تلتزموا بالنظام. رمقته النسوة بنظرة شزراء ولم يرددن عليه. وقد جرى كل هذا الكلام والألفاظ غير المناسبة والخليجيون -بحكم أدبهم- لم يردوا على هجوم النساء الحاقد، وتصرفاتهن التي لا تختلف عن أعمال أطفال الشوارع. والآن، كيف بالله عليكم تتوحد هذه الأمة إذا كانت شعوبها بتلك الحساسية والغيرة والحقد ضد بعضها بعضاً. وإذا كان المواطن العربي -يقوم بالخطأ ولا يعترف به، بل ويغضب إن واجهه أحدهم بأن ما قام به يعتبر تعدياً على حقوق الآخرين- فكيف يمكننا أن نروج للسياحة والمحبة وشعارات الأمة الواحدة؟ ثم لماذا نبرة الحقد على شعوب الخليج؟ أدرك أنني لا أكتب موضوعاً سياسياً لكن الإعلام العربي والتضليل في بعض ذلك الإعلام هو الذي يغذي نبرة الحقد والكراهية ضد شعوب الخليج، بل إن أول \"تهمة\" توجه للخليجيين هي أنهم أثرياء! وكأن الغنى تهمة! فيما الحقيقة هي أن الغنى ليس تهمة كما أن الفقر ليس عيباً. بل هي أرزاق يوزعها الله على عباده. ناهيك عن أن عائلات خليجية كثيرة تعيش تحت خط الفقر، وتعتمد على إعانات الشؤون الاجتماعية. ومن الخطأ أن تُمررَ رسائل إعلامية بشكل مخالف للواقع بحيث يتم \"وسم\" الشعوب الخليجية بأنها ثرية، وإن لم تكن في ذلك الثراء مثلبة! ولن نتحدث هنا عما قدمته دول الخليج للدول العربية، ومن بينها بلد أولئك النسوة اللاتي -ودون سبب- هجمن على الرجل الخليجي في ذلك الموقع الحدودي البائس -وعممن الأوصاف غير الحميدة على كل الخليجيين، بل لقد وصل الأمر بهن إلى \"الدعاء\" عليهم بعدم الوصول إلى البلد الذي كانوا يقصدونه. لقد عززت بعض الأنظمة العربية مفاهيم الانغلاق والكراهية ضد بلدان الخليج، على رغم أن مواطني تلك الأنظمة \"يرفلون\" بثياب العز والعطور الباريسية والرواتب والفلل والسيارات الألمانية الفاخرة والسيجار الكوبي، ويُعاملونَ معاملة أفضل من معاملة المواطن! إننا لا ندري لماذا تثور نسوةٌ في موقع حدودي ضد خليجي تكلم بكل أدب ودعاهن إلى الالتزام بالطابور. وهذا يحدث في أي مكان في العالم، وجميع المسافرين العقلاء يلتزمون بالطابور والمخالف ينبغي أن يرتدع. والأنكى من كل ذلك، وبعد أن واجه الخليجي الموقف بالصمت وأشاح بوجهه عن كل ما يجري، قالت إحدى السيدات: \"والله بيسيل الدم للرُّكب اليوم...\"! تصوروا أن يصدر هذا الحديث عن امرأة تجاوزت الخامسة والخمسين وتحمل جواز سفر عربياً، ولا يفصلها عن الرجل الخليجي الخمسيني إلا شبر من المسافة، وهي توجه الكلمات القاسية لوجهه، والخليجي -لا يحب المشاكل والمخافر- ويعتمد قاعدة \"يا غريب كون أديب\". ولكن تلك السيدة العربية يبدو أنها لا تعترف بأنوثتها أولا، ولربما تشكو من مرض عضال يصعب الشفاء منه.