هل يمكن للعقل السياسي العربي أن يستنهض قواه لمواجهة العقل السياسي الغربي، بكل ما ينطوي عليه من نفعية وانتهازية وازدواجية في المعايير، بل وعنصرية أحياناً في مواجهة المسلمين والعرب؟ كان هذا هو السؤال الذي ختمنا به تحليلنا النقدي لمسارات العقل السياسي الغربي في مراحل الاستعمار، وما بعد الاستعمار، وفي عصر العولمة. وتقتضي الإجابة على هذا السؤال البالغ الأهمية إلماماً كافياًَ بالتكوين التاريخي للعقل السياسي العربي، قبل أن نتصدى لمشكلة إمكانية تجدده، حتى يستطيع أن يكون فعالا في التعامل الخلاق مع تحديات عصر العولمة، بمشكلاته السياسية والاقتصادية والثقافية المعقدة. ولا يمكن الحديث عن العقل العربي عموماً وعن العقل السياسي العربي خصوصاً، بغير الاعتماد الأساسي على البحوث العميقة التي قام بها في هذا المجال الفيلسوف المغربي المعروف "الدكتور محمد عابد الجابري". وقد بدأ المشروع الفكري الرائد للجابري عام 1980 حين أصدر كتابه "نحن والتراث" الذي كان أشبه بإعلان نظري ومنهجي عن الدراسات التي أصدرها فيما بعد تحت عنوان "نقد العقل العربي". وصدر الجزء الأول بعنوان "تكوين العقل العربي"، وأعقبه الجزء الثاني بعنوان "بنية العقل العربي". وفي هذا الجزء بالذات اكتشف الجابري ثلاثة أنظمة معرفية episteme وهي "البيان" و"البرهان" و"العرفان". وقد أدى صدور هذين الكتابين إلى أصداء بعيدة المدى في الفكر العربي المعاصر. وانتقل الجابري بعد ذلك إلى السياسة فأصدر عام 1990 كتابه المهم "العقل السياسي العربي"، واستكمل بعد ذلك رباعيته بكتاب أخير في هذه السلسلة المتتابعة عن "العقل الأخلاقي العربي" عام 2001. ومعنى ذلك أننا أمام محاولة إبستمولوجية (معرفية) جسورة لا سابقة لها في الفكر العربي، للكشف عن مكونات العقل العربي في تجلياته المختلفة. وإذا كان مشروع الجابري قد احتل مكان الصدارة في الإبداع الفلسفي العربي المعاصر، فإن ذلك لم يمنع من أن توجه إليه انتقادات من زوايا متعددة، سواء في الندوات العلمية التي عرض فيها نتائج أبحاثه، أو في العروض النقدية التي انشغلت بمناقشة أفكاره الخصبة. وعلى رغم كل ذلك فإنه لا يمكن تجاوز الجابري في الحديث عن العقل العربي. ولو رجعنا إلى كتاب الجابري عن "العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته" في مدخل الكتاب الذي أعطاه عنوان "مقاربات في المنهج والرؤية" نراه يُحكم الصلة بين أبحاثه في الكتاب الأول والثاني عن تكوين العقل العربي وبنيته، وبين الكتاب الثالث عن العقل السياسي. فذهب إلى أن موضوع البحث والدراسة في الكتابين الأولين كان عن "عقل الفكر العربي" أي أسس الفعل المعرفي وآلياته وموجهاته في الثقافة العربية، أما موضوع الكتاب الثالث فهو "عقل الواقع العربي" ويقصد به محددات الممارسة السياسية وتجلياتها في الحضارة العربية الإسلامية وامتداداتها إلى اليوم. ويشير إلى أن طبيعة الموضوع تختلف من كتاب إلى آخر، لأن إنتاج المعرفة شيء، وممارسة السياسة أو بيان كيفية ممارستها شيء آخر. والجابري يستعير عدداً من المفاهيم الأساسية التي يعتمد عليها في تحليله من المفاهيم السائدة في العلم الاجتماعي الغربي المعاصر، غير أنه يلتفت بذكاء معرفي إلى العلاقة بين الفكر والواقع، ويدرك أن هذه المفاهيم التي صيغت وتبلورت في سياق مجتمع رأسمالي غربي، لابد من تبيئتها (بحسب تعبيره) لتتناسب مع المجتمعات قبل الرأسمالية، مثل المجتمعات القبلية والمجتمع العربي في القرون الوسطى والحديثة، وإلى حد ما -كما يقرر- في العصر الحاضر أيضاً. ولا نريد أن نخوض في تأصيله لعديد من المفاهيم التي اعتمد عليها في تحديد مكونات العقل السياسي العربي مثل "اللاشعور السياسي"، و"المخيال الاجتماعي"، و"المجال السياسي". ولكن من المهم أن نشير إلى أبرز النتائج التي خلص إليها الجابري من مناقشته النظرية للمفاهيم وهي أن دور "القرابة" في المجتمع العربي وفي النظام السياسي والاجتماعي بالغ الأهمية. ومن ناحية أخرى التأكيد على دور الدين كعقيدة وتنظيم اجتماعي سياسي يحمل مضموناً سياسياً صريحاً أو ضمنياً. وبناء على كل هذه المقدمات طرح الجابري سؤالا جوهرياً: ما هي "المفاتيح" أو المحددات التي يقترح على أساسها قراءة التاريخ السياسي العربي؟ ويجيب إنها "القبيلة" و"الغنيمة" و"العقيدة". والقبيلة يعني الجابري بها الدور الذي تلعبه "القرابة" في المجال الاجتماعي والسياسي، وهي بشكل عام ما سبق أن عبر عنه ابن خلدون بـ "العصبية" عند دراسة "طبائع العمران" في التجربة العربية الإسلامية في عهده. وهي تماماً التي نعبر عنها اليوم بـ "العشائرية". وهذا المعنى قريب من الخطاب السياسي الذي كان سائداً في مصر الناصرية، والذي يفرق بين "أهل الثقة" و"أهل الخبرة". وإذا كانت القبيلة هي المحدد الأول لمكونات العقل السياسي العربي فإن "الغنيمة" هي المحدد الثاني. ويقصد الجابري "بالغنيمة" الدور الذي يقوم به العامل الاقتصادي في المجتمعات التي يكون فيها الاقتصاد قائماً أساساً -وليس بصورة مطلقة- على "الخراج" و"الريع" وليس على العلاقات الإنتاجية. ويقصد بـ "الخراج" هنا جميع ما كانت تأخذه الدولة في الإسلام من المسلمين وغيرهم كجباية. فيدخل فيه ما كان يعرف اصطلاحاً بالغنيمة والفيْء والجزية والخراج، ويضاف إلى ذلك الضرائب والمكوس سواء أخذ ذلك عيناً أو نقداً. غير أن الجابري ينبه إلى أن ما يقصده من مفهوم "الغنيمة" ليس فقط مصدرها، بل أيضاً طريقة صرفها وبالخصوص العطاء الذي يعيش منه أهل الدولة ومن تعلق بهم بتعبير ابن خلدون، بالإضافة إلى ما ينتج عن العطاء من عقلية "ريعية" تتعارض تماماً مع العقلية الإنتاجية. والواقع أن التطبيقات المعاصرة لمفهوم "الغنيمة" بالغة الأهمية. فقد ابتدع بعض علماء الاقتصاد العرب مفهوم "الدولة الريعية"، أي تلك التي يقوم اقتصادها أساساً على الريع الذي يتم تحصيله ليس كنتيجة لعملية إنتاجية، وإنما بحكم توافر موارد طبيعية أبرزها النفط. ومن هنا فاقتصادات الدول النفطية العربية تقوم أساساً على الريع الذي يتمثل في عائد بيع النفط. وقد اتسع هذا المفهوم ليشمل دولة مثل مصر، على أساس أن اقتصادها -في جزء كبير منه- يقوم على الريع الذي يتمثل في دخل قناة السويس، وتحويلات المصريين العاملين في الخارج، وعوائد السياحة. وفي استخدام هذا المفهوم إشارات سلبية واضحة، لأن الدول الريعية لا يقوم اقتصادها أساساً على الإنتاج، وإنما على الريع الذي يمكن أن ينخفض أو ينضب. ونصل للمحدد الثالث من محددات العقل السياسي العربي كما يعرفها الجابري وهو "العقيدة". وهو -كما يقرر- لا يقصد مضموناً معيناً سواء على شكل دين موصى به أو على صورة أيديولوجيا يشيد العقل صرحها، وإنما يقصد أولا وأخيراً مفعولهما على صعيد الاعتقاد والتمذهب، وذلك لأن الموضوع الذي يعالجه الجابري -كما قرر- هو العقل السياسي الذي يقوم أساساً على الاعتقاد وليس على البرهان. وهو ليس عقل فرد وإنما هو عقل جماعة. ويضيف أنه من المعروف أن منطق الجماعة يتأسس ليس على مقاييس معرفية، بل على رموز مخيالية تؤسس الاعتقاد والإيمان. وأهم شيء فيما يتعلق بالعقيدة -أياً كان مضمونها دينياً أو سياسياً- هو قوتها وقدرتها على تحريك الأفراد والجماعات وتأطيرهم داخل ما يشبه "القبيلة الروحية". وهكذا تحدث الجابري عن المفاتيح الأساسية التي يمكن عن طريق استخدامها قراءة مكونات العقل السياسي العربي، وتجلياته في الماضي، ولكن في الحاضر أيضاً. وذلك لأن لكل من "القبيلة" و"الغنيمة" و"العقيدة" ترجمات معاصرة تستحق التأمل حقاً، لكي نعرف كيف يؤثر الماضي في الحاضر!