ليس المقصود بهذا العنوان الإفلاس السياسي الذي تجلى للجميع داخل إيران وخارجها في الشهرين الماضيين بعد الممارسات التي قام بها الحرس الثوري وميليشيا الباسيج تحت مرأى "الولي الفقيه"، وربما بموافقته أيضاً، من قمع للمظاهرات واعتقالات واغتصاب للرجال والنساء في السجون. وتأتي تهمة الاغتصاب حسب ما أجمع عليه الرئيس السابق محمد خاتمي ومرشح الرئاسة مهدي كروبي اللذان أكدا وجود أدلة موثقة وغير قابلة للشك لما جرى في السجون من انتهاكات بحق الإنسان الإيراني، ناهيك عن مسرحية المحاكمات المعلبة التي كشفت ما يبحث عنه نجاد في محاولة منه لاستعادة المجتمع الإيراني الذي انتزعه منه خصومه وبكل جدارة لحاجة الإيرانيين لمثل موسوي وكروبي على الأقل في المرحلة الراهنة. وسعى نجاد لإظهار "بعبع" العدو والخطر الخارجي المحدق بالنظام الجمهوري في إيران عبر هذا السيناريو المرتجل لاستعادة ما فقده، لكني لا أعتقد أن ذلك مُجدٍ الآن، وذلك لتحول الجمهورية بموجب هذه الممارسات إلى نظام دكتاتوري شمولي يدار بعقلية عسكرية تتوجس من كل شيء، على الطريقة السوفييتية البائدة. بيد أن الخطر يكمن أكثر في حجب العقل الإيراني عن الخارج عبر عزله عن كافة وسائل اتصاله به، من حجب للإنترنت، والقنوات الفضائية التي يحتمل من وجهة نظر الحكم الحالي في إيران أنها تزيد من وعي الشعب، وتزيد نسبة المعارضة لنجاد؛ وهذه الممارسات تذكرنا بقاعدة في علم النفس تعتمد على أن أول خطوة في عملية غسل الدماغ لأي شخص تتم عبر حصاره وعزله عن محيطه، وتأتي هذه الخطوة مشابهة إلى حد التطابق لما يمارسه تنظيم "القاعدة" تجاه عناصره المنتمين إليه حديثاً! وهذا ما يطرح تساؤلا عن السر وراء ظهور الحجاج الإيرانيين الخاضعين لإدارة بعثة حج بلدهم الرسمية، في مجموعات يندر أن ينفرد منها أحد! ومما يزيد الأزمة في إيران تفاقماً وتعقيداً؛ التصريحات المنسوبة لمدير مكتب الرئيس نجاد وصهره إسفنديار رحيم مشائي التي نشرت في الأيام الماضية، وقد أكد فيها أن نجاد لم يحصل في انتخابات الرئاسة الأخيرة على أكثر من أربعة ملايين صوت! وجاءت هذه التصريحات بعد إقالة مشائي من منصبه كنائب للرئيس بعد تدخل خطي من المرشد الأعلى اضطر إليه لعدم تنفيذ نجاد للتدخل الشفوي الذي سبقه بأسبوع! وفي هذا إيحاء للقادم الأسوأ بالنسبة للإيرانيين والمنطقة. ويأتي ما سبق كله في ظل تراكم المعلومات لدى أجهزة الأمن في كافة الدول المتضررة من آفة الإرهاب، عن وجود مؤكد لعدد ليس قليل من عناصر "القاعدة" على الأراضي الإيرانية دون قيود على حركتهم، وكان آخر ما أعلن حول هذه المعلومات تمثل في قائمة أصدرتها وزارة الداخلية السعودية في شهر فبراير الماضي وأدرجت فيها أسماء وصور 85 جلهم من أبنائها مطلوبون لدى أجهزتها الأمنية بتهمة القيام بأعمال إرهابية، وبينت تلك القائمة وجود نحو 40 من أعضائها على الأراضي الإيرانية، ومن أبرزهم صالح القرعاوي المسؤول عن قيادة أكثر من 100 شاب سعودي جميعهم في إيران. ومع أن المملكة العربية السعودية أرسلت مذكرات إلى الانتربول الدولي لتعقب هؤلاء المطلوبين واعتقالهم بالطلب من الدول التي تؤويهم وتسليمهم لبلدهم، فإن طهران ما تزال إلى هذه اللحظة في صمتها تجاه هذا الطلب الدولي كغيره من المطالبات الدولية الأخرى في ذات الشأن أو مواضيع أخرى أكثر خطورة. ويضيف ظهور رجل "القاعدة" التنفيذي الأول أيمن الظواهري مطلع شهر أغسطس الجاري مشهداً دراماتيكياً جديداً وبعداً آخر لمتلازمة إيران و"القاعدة"، حين ظهر في تسجيل له، حاول فيه أن يوحي بمظهره داخل مكتب أنيق من حيث ديكوراته وفخامتها، والكتب المتراصة في مكتبته، بأنه ليس في المناطق التي تسيطر عليها "طالبان" أفغانستان، أو نظيرتها في باكستان. وللذي لا يعرف تلك المناطق، هي عبارة عن قرى مساكن أهلها من الطين المبني بطرق بدائية يصعب إيجاد أماكن فيها مثل ذلك المكان الذي ظهر فيه الظواهري مؤخراً؛ وربما أريد بها رسالة لإظهار تلك العلاقة مجدداً. وبعد سقوط براجماتية النظام الإيراني التي تمثلت في إدارات الرؤساء السابقين، رغم استمرارية استراتيجية تصدير الثورة، وإن خفت وهجها في عهد خاتمي، أو انحراف هذه البراجماتية عن خطها منذ 2005 حين تولى نجاد مقاليد الرئاسة وإظهاره الراديكالية القمعية في الداخل، وطموحات استعمارية عفا عليها الزمن، ومحاولته تكوين شعبية له في المجتمعات العربية بعد تضاؤلها بين مواطنيه، عبر تكراره لتصريحاته التي يقصد بها اللعب على عاطفة الشعوب في محاولة منه لتصدير ثورته إلى البلاد العربية من اليمن التي كشفت يوم الـ20 من أغسطس الجاري عن عثورها على عدة مخازن أسلحة تابعة للحوثيين كدسوا فيها أسلحة إيرانية الصنع، إلى مصر مروراً بالسعودية. ويعي نجاد ويدرك أن العرب عاطفيون وسوف ينسون مثل هذه التصريحات حين أقدمت الدبابات والطائرات الإسرائيلية على قصف غزة بكل وحشية في شهر يناير من العام الجاري أمام ناظري نجاد دون أن ينبس ببنت شفة فضلا عن تنفيذ تهديداته السابقة! وهذا ما تنتظره الدول الغربية التي كمنت تنتظر مثل هذه الانحرافات السياسية وهي الفرصة بالنسبة إليها لتكيل مزيداً من الحظر والحصار يرزح تحت وطأته اقتصاد الإيرانيين. وقد حاول نجاد ترميم ما حدث خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة عبر تولي ثلاث نساء لحقائب وزارية في حكومته الجديدة، وما تعنيه هذه التعيينات من إظهاره محبة زائفة للديمقراطية، يقصد بها ملاطفة الجماهير الإيرانية الغاضبة من خلال "نون النسوة". إن ما ينتظر إيران في هذه المرحلة هو كارثة اقتصادية، وهذا ما أقصده في العنوان؛ فمن أزمة في وقود السيارات تحدث عنها الإيرانيون أنفسهم بوقوف سياراتهم في طوابير طويلة، إلى ارتفاع في نسبة البطالة التي تجاوزت 12,5في المئة حسب تصريحات وزير العمل الإيراني في أبريل الماضي، وارتفاع في نسبة التضخم التي تخطت في مايو الماضي حاجز الـ 25 في المئة. إلا أن تصريح وزير الصحة الإيراني قبل أيام حول رفض بلاده قدوم مواطنيها لأداء شعائر العمرة والحج بحجة إنفلونزا الخنازير، جاء ليؤكد بطريقة غير مباشرة أنباء باتت تتردد وبشكل واسع، مفادها أن إيران استلمت تكلفة أداء الحج والعمرة من مواطنيها المسجلين على قوائم الانتظار ممن ينوون أداء هذه الشعائر، وبشكل مسبق عن عدة سنوات قادمة، وأن حجة إنفلونزا الخنازير أتت في وقتها لرفع الحرج عن الحكومة الإيرانية لعدم تمكنها من دفع هذه النفقات حالياً، وتسديدها ليتمكن مواطنوها من أداء شعائرهم الدينية في الأماكن المقدسة رغم أن الإيرانيين لم يتعودوا على أداء مناسك العمرة في رمضان، ولم تكن هذه المرة الأولى التي تمنع فيها الحكومة الإيرانية مواطنيها من أداء الحج والعمرة، فقد سبقتها عام 1988 وعلى مدار ثلاثة أعوام متواصلة إلى أن استؤنفت عام 1992 بعد الأحداث الدامية التي قام بها عناصر من الحرس الثوري دخلوا مكة المكرمة ضمن بعثة الحج الإيرانية الرسمية بصفة حجاج عام 1987 . ويرى الإيرانيون ذلك كله، وحسب الأنباء ذاتها وتردداتها التي أفصحت عن أن بلادهم تنفق على مشروعها النووي أكثر من 750 مليون دولار شهرياً منذ عدة أعوام بمعدل يومي يتجاوز 25 مليون دولار، ولو حسبناها منذ عام 2005 فقط، حين استلم نجاد الرئاسة لتجاوزت 36 مليار دولار، في ظل أزمة مالية خانقة اجتاحت جل دول العالم وضعضعت اقتصاداتها، وحظر اقتصادي يرزح تحت وطأته الاقتصاد الإيراني وإن كان نسبياً في الوقت الحاضر إلا أن المؤشرات تلمح لمستقبل أسوأ، ناهيك عن تكلفة دعم وتمويل المنظمات الإرهابية في بعض البلدان العربية مما زاد اللغة العامة في هذه الدول بمصطلح "فتش عن إيران" عند نشوب أي أزمة سياسية أو أمنية تقوم في أي بلد عربي تُظهر فيه إيران محاولات عبثية لاكتمال الدائرة بعد استكمال تقوّس الهلال! ما الذي سيحدث لو أن هذه الثروات المبددة يمنة ويسرة توجهت لبناء الإنسان الإيراني داخل وطنه؟ وأنفقت في بناء إيران تنموياً واقتصادياً واجتماعياً، محققة الرفاهية لشعبها الذي ينتشر كثير من أبنائه في دول عدة بحثا عن رفاهية بعيدة عن دياره ومفقودة فيها! وكيف نستطيع أن نفسر إصرار النظام في طهران على دفع هذه الأموال شرقاً وغرباً في خدمة مخططاته، وحرمان الإيرانيين من التنعم بخيرات بلدهم؟ مما سبق على الصعيدين السياسي والاقتصادي أعتقد أنه لم يتبقَّ لإيران شيء تحافظ به على بقائها كدولة ضمن مجتمع تقوده العولمة في كل شيء، ولا مكان فيه للدكتاتوريات الباحثة عن التضخم والتمدد والقوة والسيطرة بالسلاح وتجميعه، ومحاولة قلب القواعد والمفاهيم في سعيها إلى سيطرة الأقلية على الأكثرية، إلا الاستدارة للداخل عبر الالتفات للمواطن الإيراني، وبنائها الاجتماعي الذي يعبر وبطريقة يومية منذ يونيو الماضي عن رفضه للتحول إلى الدكتاتورية التي اقتربت من "الثيوقراطية الفئوية"، مطالبين بالعودة إلى براجماتية الممكن في طريق "الأمل الأخضر"، رغم أن هذا الأمل ونظيره المفترض "اليأس" على الساحة الإيرانية ولدا من رحم ثورة واحدة وتربيا في الحضن ذاته.