لم يكف إسرائيل بعد ما صنعته في منطقة الشرق الأوسط عموماً، وفي المشرق العربي ومصر بصفة خاصة، خلق وجودها في قلب هذه المنطقة صراعاً استنزف دولها ومنع التطور الطبيعي لمجتمعاتها. وأصيبت هذه المجتمعات بتشوهات كان أخطرها، ومازال، هو ذلك الذي ضرب الثقافة السائدة فيها. فقد أدت سياسة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" إلى انتشار ثقافة أحادية ذات طابع شمولي. غير أن أثر "العامل الإسرائيلي" لم يقف عند حد تشويه الثقافة السائدة في المجتمعات العربية عموماً، ومجتمعات البلاد القريبة من قلب الصراع على فلسطين بصفة خاصة، والإخلال بمقومات تطور هذه المجتمعات. فقد ساهم الأساس الديني- التوراتي للحركة الصهيونية في تسهيل مهمة التيارات التي عملت من أجل تديين السياسة والمجتمع في العالم العربي. فعلى رغم أن الكثير من قادة تلك الحركة لم يكونوا متدينين، فقد استند مشروعهم الى مقولات ورموز وأساطير دينية. وليس الإصرار الراهن على إعادة تعريف إسرائيل لتكون دولة يهودية إلا تعبيراً متأخراً عن جوهر المشروع الصهيوني الذي أحدث أثره السلبي على الصعيد العربي منذ وقت مبكر. وكان "العامل الإسرائيلي" أحد أهم العوامل التي أنتجت التطرف بدرجاته المختلفة وأشكاله المتعددة في المجتمعات العربية. غير أن دور هذا العامل كان، ومازال، أبعد من أثره العام على هذا النحو. فقد خلق تشدد السياسة الإسرائيلية تجاه جهود التسوية السلمية للصراع بيئة حاضنة للتطرف ومساهمة في إنتاجه. وظهر ذلك بوضوح، ومازال، على الساحة الفلسطينية. فقد أضعفت إسرائيل، بسياستها المتشددة واعتداءاتها المتواصلة، التيار الوطني الفلسطيني ممثلا في حركة "فتح" ومنظمة التحرير، فهيأت الفرصة لتيار إسلامي كان هامشياً حتى النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي. رفضت إسرائيل منظمة التحرير وحاربتها في داخل الأراضي المحتلة وخارجها، وساهمت بذلك موضوعياً في بروز حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وتنامي دورها تدريجياً إلى أن تفوقت على حركة "فتح" انتخابياً ثم استولت على قطاع غزة عسكرياً. وكان دور إسرائيل في هذا السياق واضحاً إلى حد أن حركة "حماس" اتُهمت لسنوات طويلة بأنها "صنيعة" سلطة الاحتلال، على أساس أن هذه السلطة تغاضت عن نشاطات تنظيم "الإخوان المسلمين" الفلسطيني الذي نشأت تلك الحركة من داخله وصارت امتداداً له. ولكن ما حدث هو أن إسرائيل، التي أعطت أولوية قصوى لمواجهة المقاومة المسلحة التي مارستها فصائل منظمة التحرير، لم تجد في نشاط "الإخوان" الفلسطينيين السلمي ذي الطابع الدعوي تهديداً آنياً على مدى عقدين بعد احتلالها الضفة الغربية وقطاع غزة. وسعت إسرائيل، في الوقت نفسه، إلى استغلال التناقضات الفلسطينية التي فاقمها تنامي تيار إسلامي خارج إطار منظمة التحرير. وقد تحقق لها ذلك بدرجة لا يمكن أن يكون أي من قادتها قد توقع إمكان بلوغها، وخصوصاً عندما أنتج تنامي دور "حماس"، في الوقت الذي تدهور الوضع الفلسطيني، اقتتالا أو صداماً مسلحاً أفضى إلى فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية. وإذا كان هذا التدهور في الوضع الفلسطيني يبدو مريحاً لإسرائيل في الوقت الراهن، فهو يمثل خطراً يهدد المنطقة في مجملها. وقد لا تنجو إسرائيل من هذا الخطر، الذي يبدو اليوم بلا حدود بعد أن أصبح الوضع المأساوي في قطاع غزة أشبه بمعمل ينتج موجة تطرف ديني ذي طابع تكفيري تستلهم فكر "القاعدة". ولم يكن إعلان إحدى الجماعات التي ركبت هذه الموجة (جماعة جند أنصار الله) مولد "إمارة إسلامية في أكناف بيت المقدس" إلا أحد مظاهر الخطر الجديد وقد ظهر على السطح. أما تحت هذا السطح، فما أكثر الشباب المهيئين لحمل فكر السلفية الجهادية والانضمام إلى جماعات تكفيرية أخرى تعمل في قطاع غزة أو إنشاء أخرى غيرها. ولذلك فلا أثر يُعتد به للضربة القاصمة التي وجهتها حركة "حماس" وسلطة الأمر الواقع في القطاع ضد جماعة "جند أنصار الله". فليست هذه الجماعة إلا تعبيراً صغيراً عن موجة أكبر وقابلة لأن تكبر. فهناك، الآن، عدة جماعات أخرى علنية في غزة تحمل الفكر نفسه وتتطلع بدورها إلى الارتباط بتنظيم "القاعدة"، بخلاف ما لم يصعد بعد على سطح الأحداث. توجد، أولا، جماعة "جيش الإسلام -كتائب التوحيد والجهاد"، التي كانت على علاقة وثيقة مع حركة "حماس". وقد ظهرت هذه العلاقة عندما شاركت الجماعة في عملية "الوهم المتبدد" التي أُسر فيها الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط الذي مازال محتجزاً لدى جناح "حماس" العسكري حتى الآن. ولكن العلاقة بين مؤسس جماعة "جيش الإسلام" ممتاز دغمش، الذي ينتمي إلى إحدى كبريات العائلات في قطاع غزة، وحركة "حماس" توترت بعد سيطرة الأخيرة على غزة إلى حد وقوع مواجهة مسلحة صغيرة آثر هو بعدها أن يأخذ خطوة إلى الوراء لتجنب صدام من النوع الذي راح ضحيته زعيم جماعة "أنصار جند الله" عبداللطيف موسى الملقب بـ "أبو النور المقدسى" في 14 أغسطس الجاري. وقد كشفت التحقيقات المصرية في عملية التفجير التي وقعت في منطقة الحسين في 22 فبراير الماضي تورط جماعة "جيش الإسلام" فيها. ويعني ذلك أن خطر ازدياد التطرف في قطاع غزة يتجاوز حدوده إلى مصر، وربما يصل هذا الخطر إلى بلاد أخرى في المنطقة. فجماعات السلفية الجهادية في القطاع ليست منبتة الصلة بأخرى في المنطقة، ولا يمكن أن تكون كذلك. فهي تعتمد، في الغالب، على دعم مالي من خارج القطاع. ويبدو أن هذا ما بدأ يتضح في تحقيقات مصرية أخرى جارية الآن في قضية تنظيم متطرف كُشف النقاب عنه أخيراً يدعى "التكفير والجهاد"، وأفادت التحقيقات فيها أنه قام بدعم جماعة "جند أنصار الله"، وإن لم توضح نوع هذا الدعم على وجه التحديد. وهناك، ثانياً، جماعة "جيش الأمة -أهل السنة والجماعة" التي أفصحت في سبتمبر 2008 عن علاقة ارتباط عقائدي بتنظيم "القاعدة"، ولكنها نفت أن تكون جزءاً منه. وكان ذلك الإعلان رداً على فيلم وثائقي بثته القناة الثانية في التليفزيون الإسرائيلي تضمن صوراً لتدريبات عسكرية في قطاع غزة قيل إنها لعناصر من هذه الجماعة. وزعم معدو الفيلم أن جماعة "جيش الأمة" تمثل "القاعدة في ولاية فلسطين". وقامت شرطة حكومة "حماس" في القطاع، إثر ذلك، باعتقال زعيمها "أبو حفص المقدسي" وعدد من قادتها ثم أطلقت سراحهم، قبل أن تعود إلى اعتقالهم مجدداً في مايو الماضي ولكن بدون صدام مسلح. ولكن المعلومات المتوفرة عن هذه الجماعة تفيد أنها مازالت تعمل في هدوء على رغم اعتقال زعيمها وعدد من قادتها. وإلى ذلك، تتوفر مؤشرات قوية على أن تنظيم "فتح الإسلام"، الذي كان الجيش اللبناني قد اقتلعه من مخيم نهر البارد، أعاد تنظيم بعض صفوفه في قطاع غزة. وإذا صح ذلك، فهذا يعني أن هناك ثلاث جماعات معروفة على الأقل تحمل فكر "تنظيم القاعدة"، ولكن بدون أن يكون هناك ما يؤكد وجود ارتباط مباشر معه. والأرجح أنها هي التي سعت، أو ربما تسعى حتى الآن، إلى مثل هذا الارتباط. وقد ينطبق ذلك أيضاً على جماعة أخرى مجهولة هددت في الأسبوع الماضي باستهداف قادة "حماس" ومراكز الأمن التابعة لها، وهي تحمل اسم "سيوف الحق" حيناً و"سيوف الحق -جيش القاعدة" حيناً آخر. والأرجح أنه لم يكن ممكناً أن تتكاثر الجماعات السلفية الجهادية في قطاع غزة على هذا النحو إلا في ظل الحصار الإسرائيلي وما يقترن به من إذلال وإفقار وترويع لسكانه. فقد أرادت إسرائيل إخضاع "حماس" عبر حصار خانق تتحكم عبره في تفاصيل حياة سكان غزة اليومية من غذاء ووقود، ومن خلال العدوان الهمجي الذي شنته قبل عدة أشهر. وربما تكون هذه السياسة قد نجحت في إجبار "حماس" على وقف إطلاق الصواريخ. ولكنها حولت القطاع، في الوقت نفسه، إلى "معمل" لإنتاج الفكر السلفي الجهادي الأكثر تطرفاً والأشد عنفاً. وهكذا تبدو إسرائيل مستمرة في نهج صناعة التطرف الذي يهدد مستقبل المنطقة، وتأبى إلا أن تواصله بدلا من أن تستوعب دروسه المرَّة.