المشكلة في الانتخابات التي تمولها الولايات المتحدة سواء في آسيا، أو في مناطق أخرى من العالم خارج الغرب، كما هو الشأن في أفغانستان، أن السبب في تمويلها والإغداق عليها بسخاء هو الرغبة الملحة لدى واشنطن في إضفاء شرعية على تواجدها في تلك البلاد. ففي استطلاع للرأي قامت به إحدى القنوات التلفزيونية، وجه سؤال إلى مجموعة من الباكستانيين حول ما يعتقدون أنه التهديد الأكبر المحدق بباكستان اليوم، فجاء الرد على الشكل التالي: 11 في المئة قالوا إن "طالبان" هي الخطر الأكبر، فيما أشار 18 في المئة إلى العدو التقليدي لباكستان، أي الهند باعتبارها التهديد الأخطر، لكن الرقمين يبهتان مقارنة بنسبة 59 في المئة من المستجوبين الذين أعربوا عن أن الولايات المتحدة، وليس غيرها، هي من تشكل التهديد الحقيقي والعدو الأول للبلاد، متفوقة على المتشددين والهند على حد سواء. وقد أشار تقرير نشرته "نيويورك تايمز" يوم عشرين أغسطس الجاري إلى الجهود المضنية التي يبذلها المسؤولون الأميركيون لتغيير هذا الموقف، وعلى رأسهم مبعوث الرئيس أوباما إلى باكستان وأفغانستان، ريتشارد هولبروك، الذي يسعى في هذه الأثناء إلى إقناع المسؤولين الباكستانيين، ومعهم الصحفيين وباقي الشخصيات المهمة، بأن أميركا مهتمة بمد الجسور بين باكستان والولايات المتحدة، وبأن إدارة أوباما تختلف عن إدارة سلفه، وبالتالي لا داعي لمعاداتها وتحميلها أخطاء إدارة بوش. ولعل هذا ما دفع هولبروك إلى الإدلاء بتصريح في كراتشي أمام مجموعة من الصحفيين قال فيه إن الولايات المتحدة تحت إدارة أوباما تريد أن ترى تحسنًا في حياة الباكستانيين وفتح مزيد من الفرص الاقتصادية أمامهم. وللتدليل على مدى التدهور الذي تشهده صورة أميركا في أعين الباكستانيين، التقت وكيلة وزارة الخارجية الأميركية للدبلوماسية العامة، "جوديث ماكهيل"، بمجموعة من الصحفيين الباكستانيين كان من بينهم الصحفي المعروف بانتقاداته اللاذعة للسياسة الأميركية "أنصار عباسي". وفيما كانت المسؤولة الأميركية تثني على العلاقات الثنائية المتميزة بين البلدين، على الصعيد الرسمي، انتظر "عباسي" إنهاءها لكلمتها ثم توجه إليها بالشكر، وأضاف قائلا: "عليك أن تعرفي أمراً واحداً هو أننا جميعاً نكره الأميركيين من أعماق قلوبنا، إننا نكرهكم". وأوضح الصحفي الباكستاني أمام وكيلة وزارة الخارجية للدبلوماسية العامة، أن الأميركيين "فقدوا إنسانيتهم لأن هدفهم هو تصفية البشر"، مضيفاً أن "الآلاف من الأشخاص الأبرياء قتلوا لا لسبب سوى أن أميركا تبحث عن أسامة بن لادن". ولاحقاً، في تعليق لها على ما قاله الصحفي الباكستاني المتذمر من السياسة الأميركية، أوضحت ماكهيل بأنها كانت "سعيدة للاستماع إلى الصحفي الباكستاني ومعرفة رأيه الحقيقي بشأن الولايات المتحدة، وذلك رغم إدراكي بأني لن أستطيع تغيير موقفه في المدى القريب على الأقل". لكن قبل ذلك باثني عشر يوماً كان المبعوث الأميركي الخاص إلى المنطقة، هولبروك، يعيد نفس الخطاب الأميركي المكرر على أسماع بعض الصحفيين الأميركيين في واشنطن لإطلاعهم على السياسة الأميركية في أفغانستان والخطوات التي تعتزم واشنطن القيام بها هناك، فركز على أن الأولوية هي لمكافحة تجار المخدرات الذين يغذون التمرد، والاستمرار في ملاحقة أسامة بن لادن، وفي نفس الوقت تشجيع المزارعين على استبدال الخشخاش بمحاصيل بديلة، فضلا عن بناء المجتمع المدني وتقوية المؤسسات. ويبدو أن قائد "الناتو" السابق الجنرال "وسيلي كلارك" الذي يعمل حالياً مستشاراً للرئيس أوباما، أكثر اطلاعاً على الواقع الأميركي في أفغانستان والتحديات التي تواجهها إدارة الرئيس أوباما هناك فقد أشار في حديث سابق إلى دروس فيتنام والحاجة إلى الاستفادة منها، وأكد أيضاً أنه أشار على الرئيس بالتركيز في أحاديثه حول أفغانستان، على مطاردة "القاعدة" وتفادي الحديث عن إحلال الديمقراطية هناك، لأن ذلك من شأنه إزعاج الأميركيين وإثارة استيائهم من الحرب الدائرة. والحقيقة أن مشورة الجنرال "كلارك" تنطوي على بعض الوجاهة إذ لا يمكن انتظار نجاح الديمقراطية في أفغانستان خلال مدة قصيرة حتى في ظل تحمس بعض المسؤولين ومن بينهم هولبروك الذي قال إن الولايات المتحدة ستدعم الديمقراطية في أفغانستان وإن استغرق ذلك عشرين إلى ثلاثين عاماً. ولتحقيق ذلك الهدف، أشار تقرير نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" إلى الجهود التي تُبذل في هذا الإطار، والاستخدامات الجديدة لوسائل الاتصال، مثل الراديو والهاتف النقال، لمواجهة الدعاية التي تروجها "طالبان" بين الأهالي. وهو الأسلوب الذي يقف وراءه هولبروك باعتباره أحد مشاريعه في الأيام القادمة، والقائم على بناء نظام إعلامي يصل إلى جميع القرى الأفغانية، ويبث خطاباً مناهضاً للمتمردين. لكن بما أن أفغانستان بلد شاسع وتضاريسه وعرة، فإننا نود أن نعرف من المسؤولين ماذا سيفعلون عندما تنتهي بطاريات الهواتف النقالة وأجهزة الراديو في بلد يفتقد معظمه إلى الكهرباء؟ وماذا لو استغلت "طالبان" شبكة الاتصالات نفسها لبث دعايتها؟ هل سترسل حينها الولايات المتحدة الآلاف من حراس شركة "بلاك ووتر" لحماية محطات الكهرباء والاتصالات التي ستقام في المناطق النائية؟ -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "ميديا تريبيون سيرفس"