كان الأربعاء (19 أغسطس 2009) أكثر الأربعاءات دماً وشؤماً، ولهذا اليوم في الذاكرة العراقية حوادث شؤم لا تعد، واعتقاد نحس قديم، وكنت جمعتها في مقال سابق "نواحس الأربعاء"، ومنها: اجتياح المغول بغداد (محرم 656 هـ)، واستيلاء "البعث" على السلطة (يوليو 1968)، واجتياح الأميركيين ودخول كل زحافات الموت وفصائل الفتنة بغداد (أبريل 2003). وقبلها أشتدت معركة وتدفق سيل دم ببابل حيث دير الجماجم (83 هـ)، فبعدها فرغ العراق للحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95 هـ). ولعلَّ اسم القرية الغافية على شاطئ الفرات، أو شط الحلَّة، الجمجمة، من ذلك الاسم، وهو أمارة موت أيضاً. هذا، ولم تقل مصائب بابل عن مصائب بغداد، فكان موعدها الخميس الدامي. لم يبق يوم من أيام الأسبوع، ولا شهر من شهور السنة، نظيفاً من الموت العراقي! فما هو السبب! ومن أين لهذه الوحوش الجبروت! أن تخرج من بين الحيطان ومن شقوق الأرض المحروسة! حراسة يقولون عنها مطبقة برجال وأجهزة لا يمر من بين أقدامهم النَّمل! هذا ما يقوله أهل الأمر المنعمين بحماياتهم، وراء أسوار من الصخور. أين الخلل! دعونا نتفاتش في واحدة من المقاتل الطرية، لنعلم ماذا وراء حجب قضية بنك الزوية، الكائن بالكرادة الشرقية وسط بغداد! ومَنْ هرب رؤوس الجريمة، ومَنْ انتفع بستر القضية برمتها، بعد أن طغت عليها مجزرتا الأربعاء والخميس الماضيين! ويُفصل صحفي من عمله "سولت" له نفسه البوح بما في قلبه! لا تعتقدون أننا نوجه الاتهام لأحد، بقدر ما نوجهه لمسار الدولة وفداحة توجهها الطائفي! نفذت جريمة البنك من قبل حماية نائب رئيس الجمهورية، وهي التابعة للقوات الحكومية. لكن تلك القوات نشأت، مثلما يقرُّ القادة السياسيون، من الميليشيات السابقة، ومنظمة "بدر" واحدة منها، بل الأهم من بينها، فهل ستأتي حماية مسؤول في "المجلس الأعلى" من خارج بدر؟! لا نظن ذلك. وأعطي الحق لعادل عبد المهدي، فالأجواء مدلهمة، ولابد من الاعتماد على الأقربين، وهذا ليس أمراً خاصاً بالحماية، بل وبإدارة المكاتب، والمستشارين على العموم، فالمحاصصة ضاربة في الدولة من الخفير إلى رئيس الجمهورية! صحيح أن عبد المهدي خرج محرجاً، من تنفيذ مثل هذه العملية من قبل حمايته، والأكثر حراجة هو فضحها، من قبل وزارة الداخلية، وأعيدت الأموال، إلا أن رئيس الوزراء، وأمام الملأ، قال: استلمنا الأموال ولم نستلم الجُناة! أين ذهب الجُناة الرئيسيون إذن، ولماذا سُترت أسماؤهم. قالت المصادر: ذهبوا إلى إيران. ولا ننس أن زرقاوي الشيعة أبا درع، وفي رقبته دماء أبرياء غزيرة، ما زال يقطن إيران، بعد أن قُتل زرقاوي السُنَّة، مثلما جرت التسميات! ما الذي أخرس وزارة الداخلية عن إعلان الحقائق للناس، والقتلى ثمانية، فجعت بهم أمهات، ورُملت زوجات، وتيتم لهم أطفال! لكن، وزارة المالية، ووزيرها باقر صولاغ، بيتَ للداخلية قضية هي قضية سرقة بنك البياع، من الجانب الغربي لبغداد. لماذا الخلاف بين الداخلية والمالية، ولماذا محاولات التغطية على قتل الشباب ذبحاً وسرقة المال، أليس هي المحاصصة اللّعينة! وكم جريمة قتل وسرقة وفساد بل وإبادة ضاعت في دهاليز المحاصصة، وركنت على رفوف دوائر المتحاصصين! فعن أي وطنية يتحدثون! وإلى أي عراق جديد يدعون، وبأي توافق يعملون! كان ضحايا الأربعاء الدامي في ذمة الساعين إلى المحاصصة في الانتخابات القادمة، فالذين يريدون أن تبقى البلاد منكوبة ومفتوحة لمحاصصتهم لا يتأخرون عن تحريك الجنود والضباط في الجيش والشرطة لفعل أو تواطؤ مع القتلة. بمغزى القول: لا تحميكم سوى طائفتكم، سوى رؤوس طائفتكم من الحزبيين. وإلا مَنْ هرب وحمى المتهم بقتل ولدي مثال الآلوسي، ومَنْ هرب النائب المتهم بالقتل، والتورط بتفجير قاعدة البرلمان! هي النية نفسها والفعل نفسه، بهما هُرب قتلة الحراس الثمانية، وسُراق أموال الزاوية! لقد أكثر المسؤولون المتحاصصون من توجيه الاتهام إلى دول الجوار، وكل منهم يشير إلى الدولة التي يعتبرها خصماً طائفياً، وأشير بأصابع الاتهام إلى بقايا النظام السابق، وفلول "القاعدة"، وكل هذا جائز، فأي خصم لا يتحرك وهو يجد الأرض مبسوطة له. مع علمنا أن مَنْ يعدون أنفسهم مقاومة، من بقايا النظام السابق، أدانوا كارثة الأربعاء الدامي، وهو ليس من مصلحتهم الإعلان عن عدم مسؤوليتهم حتى ولو لم يرتكبوها، لأنها رسالة مفيدة: أنهم قادرون على فعل الزلازل! لكن المسؤولين المتحاصصين لم يراجعوا أنفسهم، وهم يعلمون أن الجيش والشرطة تكونا من ميليشيات سابقة، احترفت عمل العصابات، وتغذت بالكراهية، وكانت تفضل في جهادها إيران على العراق، وسرت في دواخلها ثقافة التحزب والطائفية، كان عندها دخول الجيش الإيراني مدينة الفاو نصراً، لأن عقيدتها أن اجتياح إيران للعراق هو نصرها، وبه ستتسلم السلطة. وهي العقيدة نفسها عند الطرف الآخر بالنسبة إلى إيران، فيعتبر احتلال العراق للمدن الإيرانية نصراً له، هذا عندما تلفعت المواجهة عباءة الصراع بين شيعة وسُنَّة، عرب وفرس. ولا يختص به المتعاملون مع إيران بل اختص به القوميون أيام الناصرية مع مصر، وتختص به جماعات "الإخوان المسلمين" إن كانت لها دولة، ويختص به اليساريون مع موسكو أيام الاشتراكية... إنها العقائد تكبر على الأوطان. إن حلَّ الجيش العراقي، والقوى الأمنية كافة، وبناءها من جديد على أساس الميليشيات، هو السبب وراء الأربعاء الدامي. فكم معتمر عِمامة وضع على كتفيه سيوفاً متقاطعة وتيجاناً ونجوماً! وكم فاشل في الدراسة تبوأ منصباً قيادياً في الجيش والشرطة! وكم من ضابط محترف قُتل لأنه شارك في الحرب مع إيران، حتى رئيس الجمهورية نفسه أعلن عن استعداده لإيواء المهددين بالقتل من الطيارين وكبار الضباط. من حق وزير، ليس في قلبه عاطفة على العراق، أتت به المحاصصة لا مؤهله العلمي والمهني وزيراً، الثناء على المحاصصة والسعي إليها، وإن كان فيها تدمير البلاد! وإن مستشاراً سياسياً وعسكرياً وثقافياً لرئاسة الحكومة بمؤهل مذهبي وحزبي لا يقود البلاد إلا لمثل تلك الكوارث، وكيف بأمر المالية والتربية والتعليم والصناعة والزراعة والتجارة والنِفط، وسفراء لا يميزون بين الجامع والسفارة! سيصل العراقيون، وها هم وصلوا إلى حماية أرواحهم وبلادهم بصرخة واحدة، مثل التي جاءت مدوَّية على لسان أبٍّ مفجوع بطفله الرضيع، في صباح الأربعاء الدامي: "منريدكم (لا نريدكم)"! وسبق أن تحمل العراقيون القتل وأسمعوها لمَنْ هو أقوى وأشد: "صدام حسين شيل إيدك شعب العراق ما يريدك". على أية حال، إن جيشاً وشرطة تؤلفهما إنكشارية وقزلباش لا يعصمان دماً ولا يحميان بلداً!