في ما وراء النزاعات الأهلية والاضطرابات والتخبط والتطرف وانعدام التنمية ورفض التغيير، تكمن أزمة السياسة، أي أزمة نمط الإدارة والتسيير والقيادة التي تسود القسم الأعظم من البلاد العربية، وفي صلبها أزمة النخب الاجتماعية. وتطلق أدبيات العلوم الإنسانية مصطلح \"نخبة\" على تلك المجموعات التي تتمتع، بقدر يزيد أو ينقص، من النفوذ إلى الموارد المجتمعية، من سلطة وثروة ومواقع اجتماعية ومعرفة... والتي تتعدد أشكالها بين نخبة اقتصادية، واجتماعية، وسياسية، وثقافية، ودينية، وعسكرية. ويضمر ذلك أن وصولها إلى مواقعها مرتبط بكفاءاتها ومقدراتها الخاصة. بيد أن الواقع العملي يقدم أمثلة لا يكون وصول الأفراد فيها إلى مواقع النخبة، أي إمكانية النفوذ إلى الموارد الرئيسية في المجتمع، مرتبطا بكفاءاتها الخاصة أو جدارتها الذاتية، وإنما بوسائل أخرى. وأوضح مثال على ذلك النخب التي توضع بدعم من احتلال أو نفوذ خارجي، أو تلك التي تصعد إلى مواقع المسؤولية عن طريق الانقلابات العسكرية، أو تلك التي تحتل مكانها الارستقراطي بوسائل زبائنية حديثة. وإلى ذلك فإنه كثيراً ما يلعب الإرث العائلي، المادي أو السياسي أو الاجتماعي أو الديني، دورا كبيرا في تقديم أفراد على آخرين. من هنا ينبغي استخدام مفهوم النخبة بروية، وبكثير من التحفظ. وأحد أوجه التحفظ عدم تجاهل الالتباس الحاصل في المفهوم بسبب الربط العفوي بين طابعه الوصفي الذي يقصر استخدامه على تحديد أو تعريف جميع أولئك الأفراد الحائزين على الثروة ومواقع المسؤولية والمعرفة والوجاهة الاجتماعية، واعتبارهم يشكلون نخبة اجتماعية، بصرف النظر عن خصائصهم الشخصية وكفاءاتهم الذاتية والطريقة التي أوصلتهم إلى سدة المسؤولية... وطابعه المعياري الذي يبرز في المعنى اللغوي لكلمة \"نخبة\"، والذي يشير إلى فئات متميزة بكفاءاتها. والوجه الثاني يتعلق بالفصل بين الوجود المادي للعناصر الحائزة على النفوذ والسلطة والوجود السياسي الذي يعني مقدرتها على التصرف كنخبة، أي كجماعة واحدة متسقة. فالحديث عن عناصر أو مجموعات أو أفراد تمكنهم كفاءاتهم أو ظروف استثنائية من احتلال مواقع المسؤولية العامة، يقصر عن فهم جدلية علاقات السلطة الاجتماعية. والقصد، أنه لا يمكن أن يستقيم الحديث عن نخبة ما لم تتجاوز هذه العناصر التي تسيطر على الموارد الاجتماعية أو تستأثر بحق الإشراف عليها، مستوى الوجود المادي الذي يَسمها بالتنوع والتشتت، وتنجح في توحيد رؤيتها أو إنتاج رؤية مشتركة، وأسلوب عمل واضح ومعروف، أي في الاتفاق على مجموعة من القواعد لتحقيق غايات مشتركة. وهذا ما يفسر نجاح العناصر المنبثقة من قلب القوى المختلفة، وأحياناً المتنافسة والمتنازعة، أي من الطبقات الاجتماعية العديدة والمخترقة هي نفسها بتناقضات داخلية، في تجاوز انتماءاتها وانحيازاتها الطبقية أو بالأحرى الفئوية الضيقة، لبناء انتماء جديد مشترك، يسمح بتكوين جماعة قائمة بذاتها ومتميزة عن أصولها المختلفة، تتمتع بحد كبير من التفاهم أو الانسجام، وتسعى إلى تعزيزه وتعميقه من خلال الخيارات الأيديولوجية والسياسية التي تتبناها وتفرضها على المجتمع ككل. والوجه الثالث للتحفظ هو أن النخبة، بالمعنى الوظيفي للكلمة، لا يمكن أن توجد وتستقل نسبياً عن انحيازاتها الاجتماعية البدائية، ولا أن تعمل كفريق واحد، وترتفع إلى مستوى المسؤولية العمومية والرؤية الكلية والنظرة المستقبلية، ما لم تتمتع بحد أدنى من القيم ومعايير السلوك وأساليب الأداء التي تؤهلها للعب دور المنسق والموجه والمحفز للمجتمع. ومن دون ذلك لا تتجاوز عناصر النخبة، أو ما يسمى كذلك، شرط وجودها المادي كقوى مسيطرة لا تسعى إلا إلى تعظيم مصالحها الخاصة، من دون مراعاة أي مصالح ثانية، بما في ذلك مصالح فئات النخبة الأخرى. فالسيطرة البدائية من قبل مجموعة على موارد المجتمع، لا تسمح بالحديث عن نخبة اجتماعية، ولا عن نظام سياسي اجتماعي تكون النخبة حاملته وصاحبة الفضل في تشغيله وتسييره لصالح المجتمع عموماً ولصالحها خصوصاً، ولا يستمر إلا بقدر ما تتقاطع فيه مصالح الطرفين إلى هذا الحد أو ذاك. هذا يعني أنه لا يمكن لنخبة أن تنشأ وتكون فاعلة وقادرة على بناء جماعة سياسية من دون تحقيق شرطين: الاستقلال عن أصحاب المشاريع والأعمال والمال من جهة، وتكوين وعي واضح بالمسؤولية تجاه المجتمع والرأي العام من جهة ثانية. وعلى درجة هذا الاستقلال وقوة الشعور بالمسؤولية لدى النخب تتوقف مقدرتها على تأسيس جماعة سياسية مستقرة وفاعلة. في هذه الحالة يمكن الحديث عن نخبة بالمعنى السياسي والفكري تحتل مواقع المسؤولية في توجيه المجتمع والرأي العام معاً. ويعني ذلك أن النخب السياسية والثقافية المعنية بوضع رؤية عامة، والسعي إلى تحقيقها، لا تشكل امتدادا مباشرا للطبقة المسيطرة على الثروة المادية والرمزية، من دون أن يعني ذلك أنها لا ترتبط بها، أو لا تنتمي إليها ولا تولد في حجرها... لكنها ليست نفسها. فهي تدخل في ديناميكية خاصة بها منذ اللحظة الأولى لاحتلالها موقع القيادة والتوجيه العموميين. ومن هنا تشكل دراسة النخب، وطريقة تكوينها، وأسلوب إعادة إنتاجها، ونوعيتها، مدخلا أساسيا لفهم قيام الدول ومصير المجتمعات السياسية، وأسلوب ممارسة السلطة وتطبيق السياسات العامة الكبرى، وخصائص نظم الحكم... وهو ما ينعكس على النظام العام وعلى الطبقات الحاكمة ذاتها. فهذه العوامل هي التي تحدد طبيعة علاقات النخب بالطبقات الاجتماعية وتصورها الذاتي لدورها وهويتها والمهام المطلوبة منها. فارتباط النخبة الأميركية بطبقة رجال الإدارة والأعمال، وسيطرة القيم الليبرالية القوية على أيديولوجيتها، يعكس سيطرة مجتمع الأعمال ونفوذه الواسع في المجتمع ككل، وإزاء تكوين النخب السياسية والثقافية، حيث تسيطر منظومة الجامعات الخاصة الحرة المرتبطة هي ذاتها بنظام المشروع الخاص والممولة منه. بالمقابل يغلب على النخبة الفرنسية، التي نشأت في سياق تأكيد دور الدولة القومية ومركزيتها، والتي تعتمد في تكوينها على نظام تعليمي عمومي تموله الدولة وتشرف عليه، طابع النخبة التكنوقراطية. وهو ما يدفعها إلى إظهار استقلالية أكبر تجاه أصحاب المشاريع، وإلى بلورة رؤية مختلفة لدور الدولة ومكانتها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية أيضاً. لكن تظل النخبة في الحالتين أداة التواصل والتوحيد بين جميع القوى والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين. واستقلال النخب عن أصحاب الثروة والمال، وشعورها بالمسؤولية تجاه المجتمع، وتمثلها مفهوم المصلحة العامة، يبدو أكثر وضوحا اليوم في المجتمعات الديمقراطية الحديثة التي أنجزت ثورتها السياسية والصناعية، وتمثلت قيم المساواة والعلاقات الفردية والمواطنية. أما في المجتمعات التي لم تصبح صناعية، ولم تحل علاقات العمل الرأسمالي عرى تشكيلاتها الجماعية التقليدية، فالأمر يختلف. إذ لا يكاد التطابق هنا بين أصحاب السلطة وأصحاب الثروة والجاه، يترك مجالا لأي حراك اجتماعي. وهو يدين أبناء الطبقات الدنيا بالبقاء في موقعهم مهما بذلوا من جهود، باستثناء حالات نادرة. ومع هذا، وحتى في المجتمعات الصناعية، تبقى العلاقة قوية بين الثروة وفرص احتلال مناصب المسؤولية، نتيجة تأثير الحالة الاجتماعية والمادية في تكوين الأبناء وتأهيلهم للحصول على المهارات الفنية والمهنية.