نشرت الوكالات المتخصصة في الأخبار والتعليقات الأفريقية خلال الأسبوع الثالث من أغسطس 2009، عدة تقارير ملفتة، تعقيباً على زيارة هيلاري كلينتون لسبع دول أفريقية بين الرابع والخامس عشر من الشهر؛ تشد الانتباه لما بعد الدلالات الظاهرة في مجمل الزيارة إلى أبعاد الأمن العسكري الأميركي في القارة والذي يتطلب دعم العلاقات مع عدد من دولها. يختلف ذلك عن الانطباع الذي تحدثه الرسائل العلنية للسيدة هيلاري، والذي يدور حول الديمقراطية، والفساد، والتنمية، وكون المساعدات الأميركية مرهونة بمسؤولية الأفارقة عن أنفسهم أولا، عبر تنمية التبادل التجاري مع الولايات المتحدة، وفيما بين أنفسهم. ولم تجامل هيلاري في كثير من تصريحاتها، أياً من الدول التي زارتها، بدءاً من الدولة المضيفة لمؤتمر \"الفرص الأميركية الأفريقية\" (أجوا) في نيروبي يوم الرابع من أغسطس، وحتى الحديث عن سرعة انتخابات الرئاسة في أنجولا، وسوء سلوك الجيش الكونجولي تجاه النساء هناك، وأخيراً -وبأشد لهجة في نيجيريا- بالحديث صراحة عن الفساد وضعف القيادة. البعد الآخر للزيارة الأفريقية يكشفه بعض ما ينشر عن إدارة الرئيس \"أوباما\" في هذه الفترة، وخططها تجاه أفريقيا بوجه خاص. ويلفت النظر منذ البداية، كيف تواصل هذه الإدارة التزامات مقررة من إدارة بوش السابقة، رغم ضجيج الحديث عن الروح الجديدة، والتي لا يمكن أن تكون جديدة بالفعل دون أن تكون لها بعض النتائج الحقيقية، والتي تمس الاستراتيجيات الأساسية للنظام الأميركي، طالما ظل هذا النظام صاحب السيطرة في عملية العولمة الجارية. ويحسب لأوباما هنا ما يؤكده عن روح \"التعاون\" مع \"آخرين\" أو \"الآخر\" من أجل استغلال الفرص المتاحة! وقد كانت الإشارات بارزة في الحديث عن الشرق الأوسط، وما تلاها من مواقف. وبالنسبة لأفريقيا، كانت رسالة أوباما واضحة بتحميل حكوماتها المسؤولية، والهروب على نحو ما من المسؤولية الأميركية عن ضعف القارة في كثير من المواقع الخاصة بالمحاصيل الزراعية أو الديون أو مواجهة الفوضى.. إلخ. وجاءت هيلاري، بوجه جاد (عبوس أحياناً)، مشيرةً إلى نفس المسؤوليات الأفريقية، عن الحكم الديمقراطي، وفساد القادة. ويبدو أن ذلك لم يكن بعيداً عن ضرورة تأكيد الاستراتيجيات الأميركية السابقة حول التأمين العسكري الأميركي لمناطق المصلحة الاستراتيجية، في البترول والتعدين، بل ومناطق النفوذ الكبرى مثل جنوب أفريقيا ونيجيريا. هنا جاء ما نشر عن شخصيات جادة، لنعرف منه بعض ما يجب معرفته لتحليل أبعاد السياسة الأميركية، والتي يفترض أن يعرفها أصدقاؤها في منطقتنا قبل غيرهم، حتى لا يغرق البعض في موجات التصريحات الرقيقة، وهي في كل الأحوال غير دقيقة! وفي هذا الصدد؛ لا يبدو صدفة نشر أنباء حول المظلة العسكرية (الجوية غالباً) فوق الشرق الأوسط بـ \"تعاون الجميع\" لمواجهة الأخطار المشتركة القادمة من الشرق! ولذا رأيت أنه ليس صدفة أيضا أن ينشر ما قرأته من تصريحات قائد \"القيادة العسكرية الأفريقية\" (أفروكوم)، وهو جنرال اسمه وليم وارد، أثناء زيارة هيلاري لأفريقيا، وكذلك مسارعة خبير أفرو أميركى بارز في شؤون الأمن الأميركي تجاه أفريقيا، هو البروفيسور \"دانيال فولمان\"، إلى نشر تقرير عن \"لعبة الحرب\" الأميركية في بلاد مثل الصومال ونيجيريا. هذا مع كثير من البيانات في موقع \"أول أفريكا\" \"الشهير. القائد الأفرو أميركى، يخدم في الشؤون الأفريقية منذ كان في الصومال أوائل تسعينيات القرن الماضي وحتى عينه الرئيس \"بوش\" نفسه لمهمة \"أفروكوم\" البارزة أواخر 2007، وهو يدير عملياته من \"شتو تجارب\" في أوروبا (قريبا من مقر الناتو!) ومن القاعدة العسكرية في جيبوتي. ولا تعرف بالضبط هل ما يدور في المحيط الهندي وسواحل الصومال هو ضرب من نجاح مهمة الولايات المتحدة في أفريقيا، أم من طبيعة مفهومها لـ\"الفوضى البناءة\"؟ لكننا نعرف أنها أصبحت أكثر \"قلقا\" من امتداد هذه \"الفوضى\" إلى الصحراء العربية الكبرى في شمال أفريقيا، \"بقراصنتها\" من \"الطوارق\" في شمال \"مالي\" و\"النيجر\" و\"موريتانيا\" وجنوب الجزائر. ثم ها هي \"الفوضى الإرهابية\" تمتد إلى \"دلتا النيجر\" جنوب نيجيريا، ملوحة بتهديد واسع فى \"خليج غينيا\" الممتد من نيجيريا إلى مياه الكونغو وأنجولا، فضلا عن مركزية \"جزر ساوتومي\" في هذا الشأن. وإزاء هذه المخاطر يتحدث الجنرال \"وليم وارد\" عن مهمته الاستراتيجية لتدريب الجيوش الأفريقية \"للتعاون\" في الدفاع عن نفسها، ومواجهة الإرهاب. ويعتبر \"وارد\" أن من نجاحاته التعاون مع الدبلوماسية الأميركية، وبرنامج المساعدات (يوسيد) والعسكريين في الدول المعنية... ويؤكد موافقة الكونجرس على الزيادة الكبيرة في ميزانية \"أفروكوم\" للسنة المالية 2010، وعلى نحو ما قدمها الرئيس أوباما بنفسه! وفي نفس الأسبوع الماضي نشر \"البروفيسور فولمان\" ما يشبه التقرير عن مؤتمر عقدته كلية الحرب الأميركية في بنسلفانيا حول \"المطلب الموحد عام 2008\"، تقوم فيه العسكرية الأميركية خلال برنامج \"لعبة الحرب\" بوضع سيناريوهات الأزمات التي تتطلب تدخل أميركا في مناطق مختلفة من العالم. وفي مايو 2008. وُضعت أفريقيا، لأول مرة في هذا المؤتمر، على خريطة مناطق الأزمات الأميركية. وفي هذا المؤتمر حضر ممثلو حلف الأطلسي، كما حضرته من خارج الإطار \"إسرائيل\"، وبعض الأكاديميات العسكرية المتخصصة. وحيث لا مجال لإيراد جميع ما احتوى عليه هذا التقرير المهم، فإننا نتعرف هنا فقط على آليات السيناريو الأفريقي ومواقعه. فهو يطبق على نيجيريا والصومال (قبل أن تشرع إدارة \"أوباما\" في خطاباتها المألوفة)، ويتوقع حدوث الاضطراب الكبير في نيجيريا عام 2013، وانقسام السلطة وتقاتلها، إلى حد بحث التدخل الأميركي بحوالي عشرين ألف جندي لحماية البترول على وجه الخصوص، لكن التدخل يتوقف في حالة واحدة هي احتمال وقوع انقلاب يسيطر به الجناح العسكري على السلطة! ويذكر الباحث أن الرئيس أوباما قرر التوسع في عمليات \"أفروكوم\" على مستوى القارة، وزاد من ميزانيتها عام 2010 لتشمل أشكالا مختلفة من \"التعاون\" مع نظم القارة وجيوشها وليس مجرد \"التدخل العسكري\" وفق سياسة وزير الدفاع روبرت جيتس. ويشمل التعاون تطوير التدريب العسكري، ومبيعات السلاح، والمساعدات الإنمائية والإنسانية، وفض المنازعات.. إلخ. لكن الأدميرال مولار كان أوضح من ذلك في مراعاة متطلبات المصالح الأميركية لحماية مصادر الطاقة ومواجهة الإرهاب والنفوذ الصيني فرتبها كالآتي: زيادة الوجود البحري في خليج غينيا وساحل الصومال، دعم القاعدة الأميركية في جيبوتي، الاتفاق مع دول قريبة لحماية هذا الدور باتفاقيات مع دول أفريقية عديدة منها الجزائر وتونس والمغرب وغانا والجابون وكينيا ومالي وأوغندا وزامبيا.. إلخ. معنى ذلك أنه كانت على رحلة هيلاري أعباء أكبر من أحاديث الديمقراطية والتعاون... أعباء ترتيب الأمور الاستراتيجية الأميركية على نطاق أوسع، بل هي رحلة ذات طابع عسكري أخطر... ويبدو أن ذلك ما جعل هيلاري تبدو كالجنرالات وليست رئيسة الدبلوماسية الأميركية!