في مواجهة الحكم الذي أصدره النظام العسكري في بورما ضد المعارِضة والناشطة في مجال حقوق الإنسان "أونج سان سوكي"، والقاضي بتمديد فترة إقامتها الجبرية لمدة 18 شهراً أخرى، جدد المجتمع الدولي، وبخاصة الدول الغربية، عزمه على تشديد العقوبات على بورما في محاولة منه للتأثير على الطغمة العسكرية الحاكمة وإقناعها بتغيير سياساتها، وتبني الإصلاح والانفتاح السياسي. وعلى رغم هذه الخطوة انطلق في الغرب نقاش محتدم حول مدى فعالية نظام العقوبات في إخضاع الأنظمة الشمولية وإجبارها على الإصلاح، لاسيما في ظل العقوبات المديدة التي فرضها الغرب على بورما، منذ زمن بعيد، دون أن تحقق نتائج واضحة، مع أنها عقوبات صارمة شملت فرض حظر على بيع الأسلحة ومحاصرة أركان النظام بمنعهم من السفر، فضلا عن منع صادرات البلاد من الخشب والأحجار الكريمة. وطالما أن نظام العقوبات لم يساهم في إرخاء قبضة النظام، وإعادة الديمقراطية إلى البلاد، فإنه يحق للمجتمع الدولي والمراقبين التساؤل مجدداً عن جدوى الاستمرار في هذا الطريق، وما إذا كان الوقت قد حان للبحث عن بدائل أخرى. وحول موضوع العقوبات، تتباين الآراء وتتنوع بين مدافع عنها ومطالب بتشديدها، وبين معارض لها، ومنبه إلى فشلها، وعجزها حتى الآن عن تحقيق أهدافها المرجوة. وفي هذا السياق، يرى المناهضون لنظام العقوبات أن آثارها لا تطال سوى الشعوب فيما تظل الأنظمة المستهدفة أساساً بالعقوبات في منأى عن تداعياتها، محتكرة لنفسها الموارد التي تبقيها لمدة أطول في سدة الحكم. بل إن العقوبات في رأي المعارضين قد تأتي بنتائج عكسية لأنها تجعل السكان أكثر اعتماداً على النظام في توفير الخدمات الأساسية التي تعطلها العقوبات، وهو ما يساعد النظام في النهاية على إحكام قبضته على البلاد. وفي حالات أخرى قد يلجأ النظام إلى استغلال العقوبات لإقناع الشعب بأن البلد مستهدف بمؤامرات خارجية تسعى إلى تقويض الاستقلال والتعدي على السيادة، بحيث يستغل النظام العقوبات ليعزف على الوتر القومي، وليصرف الانتباه عن مسؤوليته الخاصة فيما يعانيه شعبه من ضيق، والتركيز بدلا من ذلك على تصدير أسباب الفشل للخارج. ويسوق المعارضون لسياسة العقوبات أيضاً أمثلة عديدة تدعم موقفهم، أهمها حالة كوبا التي استطاعت، وعلى مدار نصف قرن التعامل مع العقوبات المفروضة عليها بحرفية عالية، إذ لم تمنع العقوبات كاسترو من معاصرة عشرة رؤساء أميركيين تتابعوا على البيت الأبيض فيما هو مستقر في قمة السلطة، لا يزحزحه شيء. غير أن المدافعين عن العقوبات وجدواها لا يعدمون هم أيضاً الأمثلة المعززة لرأيهم، حيث يشيرون على سبيل المثال إلى حالة جنوب أفريقيا التي اضطر فيها نظام الفصل العنصري للخضوع للإرادة الدولية، وتفكيك أركان منظومته العنصرية الموجهة ضد السود، وذلك بسبب العقوبات التي أنهكته وضيقت عليه الخناق، وجعلته يذعن في النهاية. ليسقط نظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا، في النهاية، وتطوى صفحة التمييز ضد السود. ليس لأن النظام الحاكم الذي كان يسيطر عليه البيض غيَّر من تلقاء نفسه سياسته العنصرية بعد صحوة مفاجئة للضمير، بل إن ذلك جاء لأن النظام أجبر تحت وطأة العقوبات والعزلة الدولية على تغيير المسار، وخاصة أن الاستمرار في السياسة الرسمية للتفرقة العنصرية كان سيعني تكبيد البلاد أضراراً أخرى جسيمة تمس أولاً وقبل كل شيء النخبة البيضاء الحاكمة ومصالحها الاقتصادية على وجه الخصوص، وهي المصالح التي عرف البيض كيف يحافظون عليها حتى بعد تسليمهم السلطة السياسية للسود. وفي الواقع أنه عندما يتعلق الأمر بسياسة العقوبات ومدى فعاليتها، فإنه من الصعب الجزم بحقيقة أحادية أو تعميم نجاحات بعض التجارب، أو فشلها، بحيث يظل من الأنسب دراسة كل حالة على حدة، وتفادي الوثوقيات العامة غير الدقيقة، فضلا عن ضرورة توافر مجموعة من الشروط لكي تكون العقوبات مجدية وناجحة. وأول تلك الشروط وأهمها أن يحصل إجماع دولي على فرض العقوبات، لأن الأمر لو اقتصر فقط على الدول الغربية وسارعت هذه الأخيرة إلى حظر تعامل شركات الطاقة مع بورما، فإن هذه الأخيرة ستلجأ إلى الشركات الصينية وغيرها من دول الجنوب المنافسة للشركات الغربية، والتي تتحين الفرصة لتوسيع أنشطتها. وبالرجوع إلى مثال جنوب أفريقيا، مرة ثانية، سنجد أنها هي الأخرى كانت خاضعة على امتداد سنوات طويلة للعقوبات الدولية دون جدوى لأن الولايات المتحدة امتنعت عن فرض الحصار على النظام العنصري، وذلك لتحالف بريتوريا مع المعسكر الغربي في حربه الباردة ضد المعسكر الشرقي. ولكن هذا الوضع تغير عقب انتهاء الحرب الباردة وانضمام واشنطن إلى الدول الغربية في فرض العقوبات على جنوب أفريقيا التي اضطرت في النهاية إلى تفكيك نظام الفصل العنصري. والحال أن هذا الإجماع الدولي مفقود في التعامل مع بورما، إذ تظل العقوبات محصورة في الدول الغربية التي وجدت نفسها، بضغط من الرأي العام الداخلي ووسائل الإعلام، مجبرة على التحرك والقيام بشيء، لاسيما في ظل تعذر الحل العسكري. وفي هذا السياق تبرز مشكلة أخرى مرتبطة بالعقوبات التي تفرضها الدول الغربية تتمثل في انتقائيتها أولا، وفيما يرافقها ثانياً من نظرة تُذكر دول الجنوب بالحقبة الاستعمارية، التي كانت فيها الدول الأوروبية تتدخل في شؤون بقية العالم تمهيداً للاستعمار، وهو ما يظهر بشكل واضح في الدفوع التي يسوقها الرئيس موجابي ضد العقوبات الغربية، إذ على رغم الخراب الذي أوصل إليه زيمبابوي فإنه يستغل ورقة الاستقلال والدفاع عن السيادة الوطنية لانتقاد العقوبات وحشد التأييد لسياساته الفاشلة. فما العمل إذن؟ هل يتعين على المجتمع الدولي والبلدان الغربية نفض الأيدي تماماً مما يجري في العالم والكف عن فرض العقوبات؟ الحقيقة أنه لا يمكن أبداً الصمت إزاء ما يجري في بعض مناطق العالم من خروقات وتجاوزات تفرض التحرك الدولي ولا تدع مجالا للتباطؤ، وإلا سيكون الثمن الإنساني باهظاً. ولكن في الوقت نفسه يتعين على الدول الغربية أن تحرص وتتأكد قبل اتخاذ قرار فرض العقوبات أن يكون الباعث وراء ذلك هو المصلحة العامة، وليس تجاذبات السياسة العالمية، وهو ما يستدعي قبل فرض العقوبات الدخول في مشاورات واسعة تشرك القوى الصاعدة، لتعكس طبيعة المرحلة الراهنة في الساحة الدولية بما تتميز به من تراجع للقطبية الأحادية وانبثاق عالم متعدد الأقطاب.