سيستمر الجدل لبعض الوقت، وربما لوقت أطول، حسب الظروف ووفقاً للحاجة. كرة لوكربي لا تزال تلعب. قد تكون مرحلتها الليبية انطوت. اللاعبون الآخرون، الأكثر تورطاً، لم يظهروا بعد. كل ما شاهده العالم حتى الآن، من خلال التحقيق الطويل المكلف، من خلال الحصار والاتهام، ومن خلال السيناريو الذي رسم للمحاكمة، كان جولة البدلاء. وقد اختير عبدالباسط المقراحي لتمثيلهم، وها هو يتمتع بمفاعيل الرأفة التي منحه إياها امتياز اقترابه من الموت. وهو الذي قال، بعد إطلاقه، إن عذابه لن ينتهي وإنه قد لا يدرك حريته إلا بالموت. لكنه وعد بوصية سيقول فيها "الحقيقة"، أي حقيقة؟ تلك التي تثبت براءته. كل ما في الأمر أن الرجل وُجد في المكان الخطأ في الوقت الخطأ، ولعله كان فعلا ذلك الشخص الذي اشترى مجموعة من الملابس، أما أن يكون هو الشخص الذي وضع العبوة الناسفة بينها، فهذا ما لم يكشفه المحققون. من الواضح أن المقراحي كان السمكة الصغيرة التي اختيرت لإنقاذ السمكة الكبيرة. فـ "العدالة" كانت تحتاج إلى اسم، إلى أي شخص، سُجِّل وجوده بالقرب من قنبلة قد لا يكون عرف بوجودها إلا بعدما انفجرت. ربما عرف المقراحي أن الرئيس الأميركي أوباما طالب بوضعه في الإقامة الجبرية، لكن محنته بدأت أصلا بما يشبه الإقامة الجبرية وعندما بلغ سجنه الأسكتلندي كان كمن تخلص من الأصعب ليبدأ معاناة الصعب، ثم دهمه السرطان. كان من الطبيعي أن يخرج المقراحي من سجنه بصفة سياسية. إذ لم يعد مؤهلا لإكمال محكوميته. فمن جهة كان المرض يلح على الجميع، ليبيين وبريطانيين وأسكتلنديين، ومن جهة أخرى كان طلبه الاستئناف ضد الحكم بإدانته يلح عليهم أيضاً. والمرض كالاستئناف كان سيعني أن السرّ قد يفرقع في لحظة ما فتصعب السيطرة عليه. إذا لم يفرج عنه بسبب المرض فقد يذهب إلى الاستئناف لكيشف أدلة أخرى قد تؤدي إلى فتح التحقيق مجدداً، مع أن التفاهم الضمني في خلفية محاكمة لاهاي واتفاق التعويضات لأهالي ضحايا التفجير، ارتكز على فرضية أن الجميع يريدون إغلاق الملف. ليس فقط لأنهم تعبوا منه، وإنما لأن الاتفاق والمحاكمة والتعويضات جاءت بعدما انفتح الجميع على ليبيا التي غيّرت سلوكها تماماً وسلّمت كل المعدات والمواد التي قيل إنها تشكل نواة برنامجها النووي. والانفتاح عنى ويعني الكثير من المال والأعمال والمصالح التي كانت الشركات الغربية تتلهف عليها حتى في ظل الحصار، وبسبب الأزمة المالية زاد التلهف ليصبح تكالباً وتهالكاً. مشكلة التحقيق في انفجار طائرة "بان إم" فوق بلدة لوكربي الأسكتلندية، قبل نحو عشرين عاماً، أنه جمع الكثير من الشكوك والشبهات، لكنه بقي في ظلام دامس. وعندما انعقدت المحاكمة الاسكتلندية على الأرض الهولندية عام 2001 لم تجد أمامها أدلة محسوسة إلا تلك التي تقود إلى المقراحي. كان يمكن تكليف أي أحد بالذهاب إلى التاجر المالطي لشراء الملابس، لكن الحظ العاثر شاء أن يكون عبدالباسط هو الذي ذهب وقد تعرّف إليه التاجر بعدما رأى صورته في الجرائد. طوال الأعوام العشرين، وحتى الآن، لم يعثر على من يعطي ولو بداية اتهام لأي جهة أخرى. المعروف طبعاً أن المحققين تصوروا سيناريوهات عدة تجعلهم يظنون بأن "عملية لوكربي" ثمرة تعاون ليبي-سوري-إيراني، وقد قيل إن الدافع إليها كان انتقام إيران لطائرة مدنية أسقطها الأميركيون بصواريخ مباشرة أطلقوها عليها. وقيل أيضاً إن إعداد العبوة يذكر بأسلوب أحمد جبريل (زعيم الجبهة الشعبية-القيادة العامة)، لكن هذا يبقى مجرد افتراض. لا شك أن وقوع ليبيا وحدها في الفخ قد كلفها وأتعبها، وإذا صحّت الشراكة الثلاثية، أو الرباعية، فهي قد تكون سيفاً ذا حدين، ولا تعطي لأي من أطرافها أي أفضلية على الآخر. لذلك كان المقراحي هو الحل، إذ اختاره قدره ليكون حارساً للسر. لم يبق للأطراف المتضررة من التفجير، خصوصاً الحكومات، سوى أن تقرر تجاوز "الحقيقة"، فهي قد لا تُعرف قبل عشرين سنة أخرى، وقد لا تُعرف أبداً، ثم إن ليبيا -بالأخص ليبيا الشعب- دفعت الثمن غالياً، ولم تحصل إلا على استقبال المقراحي بشيء من الحفاوة. قد يكون الغضب الأميركي من الاستقبال لأن واشنطن لم تُشرك في الصفقة. وقد يكون الاستياء البريطاني لأن الاتفاق تضمن عدم إقامة استقبال احتفالي للسجين العائد. وقد يكون النفي الشديد من ديفيد ميليباند لتلميحات سيف الإسلام القذافي إلى وجود "صفقة" سياسية -مالية وراء إطلاق المقراحي، نفياً صحيحاً لأن الخارجية لم تُشرك في الصفقة... لكن طرابلس كانت تحتاج إلى هذه النهاية "السعيدة" لكابوس لوكربي. أما لماذا الصفقة ما دام الإفراج عن المقراحي تم على أساس الرأفة، فلأن القيم والمصالح تتداخلان دائماً في العلاقات الدولية، وغالباً ما تتقدم المصالح على القيم، إلا إذا استدعيت القيم لتغطية المصالح.