في الأسبوع المنصرم تزامنت الأحداث التالية في بلدان لا يبدو أن شيئا يجمع بين أوضاعها الداخلية المتمايزة: عودة التفجيرات المهولة إلى بغداد (في المنطقة الخضراء المؤمنة)، ظهور أول عملية انتحارية في موريتانيا استهدفت مقر السفارة الفرنسية في نواكشوط، الكشف عن خلايا إرهابية خطيرة جاهزة في المملكة العربية السعودية كانت تستهدف مواقع نفطية وأمنية مهمة، اشتعال حرب الانفصاليين الحوثيين في جبال اليمن، تجذر الحرب الأهلية الصومالية عبر عمليات الرعب الإرهابية. تحيل هذه الأحداث الى سياقات ثلاثة متمايزة: الديناميكية الإرهابية المنطلقة في عموم العالم الإسلامي في بلدان ليست مهددة في نسيجها الداخلي (المملكة العربية السعودية، موريتانيا، الجزائر، مصر...)، الفتنة الطائفية المذهبية ذات الأثر الخطير على تماسك واستقرار الكيان الوطني القائم (العراق، اليمن...)، الحرب الأهلية المستمرة في بلدان مفككة، ضائعة السيادة، انهارت فيها بنية الدولة وأصبحت مركزاً مستقطباً للعنف الإقليمي والدولي (الصومال، أفغانستان...). وعلى الرغم من الاختلاف الكبير في السياقات الثلاثة، إلا أنها تطرح من خلفيات مغايرة الإشكالية ذاتها التي هي العلاقة بين السيادة والعنف، وأثر هذه العلاقة على تطور نموذج الحكم وشكل الدولة القائمة. ومع أن موضوع السيادة والعنف ليس بالجديد، بل هو منبع الإشكالية السياسية الحديثة بكاملها، إلا أن الأمر في الواقع يحمل مستجدات نوعية تستحق وقفة اهتمام تتجاوز النطاق العربي الإسلامي الضيق. فالمعروف أن مفهوم السيادة الذي ولدته الدولة القومية الحديثة أخذ منذ بداية انبثاقه دلالة "احتكار العنف المشروع" حسب عبارة ماكس فيبر الشهيرة. إلا أن ما لا يتم إبرازه عادة هو أن هذا الاحتكار لم يتحقق إلا بفضل تحول جذري في بنية الدولة، تمثل في المرور من النموذج الرعوي للحكم إلى نموذج "السلطة الحيوية" biopouvoir حسب عبارة ميشل فوكو. فالنموذج الرعوي يتميز بطابعه الافرادي الذي يكرس علاقة الحاكم بكل فرد من رعيته عبر عقد إخضاع وطاعة وولاء مباشر. أما السلطة الحيوية فتقوم على تسيير نظام عيش المجموعة، وتستهدف تدبير حياة الأفراد من حيث هم سكان عبر تقنيات ضبط ورقابة تطورت تدريجيا حتى وصلت إلى المجالات الأكثر حميمية المتعلقة بالرغبة والإنجاب والهوية الجينية. ولم يكن هذا التحول ليحدث دون السكوت على العلاقة الإشكالية الملتبسة بين السلطة المكونة (بكسر النون) والسلطة المكونة (بفتح النون)، أي سؤال الشرعية ذاتها من حيث كون السيادة هي في نهاية المطاف حالة استثنائية مستمرة حسب تعريف الفيلسوف القانوني الألماني "كارل شميت". فالسيادة تستند في احتكارها للعنف الى مقومات قانونية، بيد أن سؤال مصدر هذه المقومات يظل مطروحا، ذلك أن القانون هو من آثار ومظاهر السيادة. ولم يكن الفكر السياسي الحديث ليحسم هذا الإشكال إلا من خلال سردية "العقد الاجتماعي" وما تقوم عليه من فرضية لحظة توافقية منشئة للدولة وضامنة لاستمراريتها، سرعان ما تم استكمالها في الآليات الديمقراطية بتقنيات التمثيل والانتخاب المكرسة للإرادة المشتركة الحرة (مما ولد أسئلة كثيفة وحادة ليس هنا مجال بسط القول فيها). وإذا كانت البلدان الجنوبية، بما فيها البلدان العربية الإسلامية قد تبنت هذا النموذج في مكوناته الأساسية، فإن الفرق الرئيسي بين السياقين يتعلق بالتفاوت الكبير في تجربة الدولة القومية وأثرها العيني الموضوعي في حقل السلطة من حيث هو تدبير للحياة الجماعية. وقد ظهر في هذا السابق اتجاهان كبيران في الدراسات السياسية العربية حول علاقة الدولة والمجتمع: ـ اتجاه يفسر ضعف وهشاشة الدولة الوطنية بعجز بنيوي ناجم عن انعدام مقومات التشكل السياسي في دولة "التجزئة القطرية" التي هي حالة ظرفية عارضة. ـ اتجاه يفسر الوضع ذاته بالرجوع للبنيات الاقتصادية والاجتماعية، محيلا إلى التجربة الأوروبية الحديثة وما أكدته من ارتباط وثيق بين تشكل الدولة القومية والمنظومة الرأسمالية التي قوضت البنيات العصبية والطائفية المعيقة لمركزية الدولة، كما كرست النمط الجديد من العقلانية السياسية التي هي منظور النظام الديمقراطي الراهن. بيد أن المقاربتين لا تخلوان من ثغرات منهجية جلية ولا تصلحان إلا جزئيا في تفسير حالة تطور الدولة العربية الحالية. إن ما نلمسه راهنا هو تطور في اتجاهات ثلاثة، نشير إليها اقتضابا: - مسار تراجع السيادة الإقليمية في مناح ثلاثة رئيسية: القطاع المالي المعولم (يمتد إلى النشاط الاقتصادي في عمومه بالنسبة للدول الفقيرة المرتهنة لمؤسسات التمويل الدولية)، المجال الاتصالي المتمحور حول الشبكات الإلكترونية والفضائية، المجال القضائي خصوصا ما يتصل منه بملفات حقوق الإنسان شديدة الالتصاق بموضوعات السياسة الداخلية الأكثر حساسية. - مسار إعادة إنتاج الهويات الخصوصية القبلية والطائفية والإثنية الذي لا يمكن تفسيره كحالة ارتكاسية ذاتية (العودة التلقائية للماضي). فهذه الهويات الجديدة لا يتسنى فهمها إلا كمظهر للحالة السياسية الراهنة، من حيث هي تعبير مزدوج عن قصور المدى الإدماجي للدولة الوطنية، وعن فاعليتها في إضعاف وخلخلة الهويات التقليدية من خلال عملية تركيب معقدة تؤول في منطقها العميق إلى إلحاق دوائر المجتمع الأهلي المنهارة بحقل السلطة المركزية. فلا يمكن النظر إلى الفتنة الأهلية في العراق كصراع سني -شيعي رغم المظاهر الخادعة بل هي في آن واحد تعبير عن فشل الدولة التسلطية التي كانت قائمة، وتوظيف للمعطى الطائفي في صراع سياسي داخلي وإقليمي حول الموارد النفطية والاستراتيجية لهذا البلد الكبير. - مسار التأرجح بين ديناميكية الانفتاح السياسي الذي تدفع إليه عوامل داخلية وضغوط خارجية متزايدة وديناميكية التسيير الاستثنائي للتعامل مع اللحظة الكارثية التي أصبحت هي الأفق التدريجي للزمن السياسي. ومن مظاهر هذه اللحظة الكارثية العمليات الإرهابية التي تختلف عن الحروب التي تخضع لمدونة قانونية سياسية معروفة، والأزمات المالية والغذائية المفاجئة التي لا يمكن تسييرها في نطاق السيادة الإقليمية، والكوارث الطبيعية والأوبئة العابرة للقارات والحدود... فاللحظة الكارثية تضعف قدرة المجتمع السياسي على رقابة السلطة المركزية، وتمنح أنظمة الحكم حتى في الدول الديمقراطية العريقة سلطات مطلقة. تحيل هذه المسارات الثلاثة إلى جوانب من إشكالية العنف والسيادة في الحقل السياسي العربي، وتبين بعض مظاهر تحول الدولة في عالمنا العربي.