في يوم الثلاثاء الماضي الموافق 18 من شهر أغسطس الجاري شهدت مدينة نيويورك تغيراً مفاجئاً في الطقس لم يكن وارداً حدوثه في مثل هذا الوقت المتأخر من موسم الصيف. وكانت أعلى درجة حرارة شهدها ذلك اليوم هي 88 درجة فهرنهايت، أي أنها لا تزيد عن المتوسط العادي 82 إلا بست درجات، لكنها لحسن الحظ كانت أقل من معدل الارتفاع القياسي 94 درجة فهرنهايت. غير أن الرياح بدأت تهب بقوة قبل حلول الساعة العاشرة مساء بقليل، ودون مقدمات أومض البرق ودمدم الرعد ليعقبه هدير تساقط حجارة ثلجية كبيرة على السيارات والمحال وشوارع المدينة. وفجأةً وجد النيويوركيون أنفسهم في أوج يوم شتوي قارس تتساقط فيه كرات الثلج وأحجاره في أواخر فصل الصيف! ولما كنت قد أمضيت الجزء الأكبر من حياتي في صحارى الجنوب الغربي الأميركي الواقعة في تلك المنطقة المرتفعة من أميركا، فلم تكن رؤية تساقط الثلج في نيويورك أمراً مدهشاً بالنسبة لي. فلطالما اعتدت على استمرار تساقطه طوال فصل الربيع ثم الصيف، بل حتى في موسم الخريف. بل إنه كثيراً ما يبدأ تساقط الثلوج هناك على نحو مفاجئ حتى في الأيام المشمسة. غير أن طقس الجنوب الغربي مختلف جداً عن طقس الشمال الشرقي من أميركا. ففي الجنوب الغربي، تهب الرياح الثلجية على نحو مفاجئ وربما تتسبب في الفيضانات وجريان الأودية وتخلف وراءها الكثير من الكوارث في أي وقت من السنة، ثم سرعان ما تتوقف وتعود الحياة إلى طبيعتها. وبالمقارنة، يبدو طقس نيويورك أكثر انتظاماً وهدوءاً. فلا تهطل الأمطار في نيويورك عادة إلا في موسم هطولها، ولا يتساقط الجليد إلا في موسمه. ولذلك فقد بدت العاصفة الثلجية التي ضربت المدينة يوم الثلاثاء الماضي أمراً غريباً لم يألفه أهلها. وفي صباح اليوم التالي، انفتحت عيون سكانها على مئات الأشجار التي يبلغ عمر بعضها بضعة قرون وقد تهاوت بفعل العاصفة القوية التي بلغت سرعتها 70 ميلاً في الساعة، فعثر على كثير منها متساقطة في متنزه "سنترال بارك" العريق. وفي تصريح لصحيفة "نيويورك تايمز"، قال أدريان بنبيه -المفوض المسؤول عن المتنزه- لقد دمّر متنزه "سنترال بارك" كلياً. ولم أرَ طوال مدة الأعوام الثلاثين الماضية التي عملت خلالها في هذا المتنزه مثل الدمار الذي رأيته اليوم. فقد بدا لي منظر الأشجار الكبيرة المتهاوية المقتلعة من جذورها أشبه بصور الأفلام التي تم التقاطها في ساحات الحرب. ذلك أن الطريقة التي تهاوت بها هذه الأشجار العملاقة تعطي انطباعاً وكأنها ضربت بقذائف المدفعية الثقيلة. فبينما تشققت سيقان بعضها حتى منطقة وسط الساق، يلاحظ أن بعضها الآخر قد اقتلع من جذوره تماماً! غير أن أول ما قد يفكر فيه العالم البيئي أو الصحفي المتخصص في مجال التغطية البيئية: كم هو غريب أن تهب عاصفة ثلجية في آخر موسم الصيف؟ وما الذي يمكن أن يقوله علماء التغير المناخي عن هذه العاصفة الثلجية؟ بل إن مما يثير الاهتمام أيضاً ارتفاع معدل الرطوبة في ذلك اليوم القائظ الحار ليتجاوز الـ90 في المئة. وكم هو حجم الكرة الثلجية المطلوب لحمايتها من الذوبان قبل أن تسقط على الأرض في درجة رطوبة مثل تلك؟ والحقيقة أن صيف نيويورك هذا العام بدا أكثر برودة من مواسم الصيف السابقة. ووفقاً لما ورد في التقارير الصحفية، فإن هذا الصيف يعد الثاني أو الثالث الأكثر برودة الذي توالى على المدينة خلال السنوات الثلاث الماضية. يذكر أن أول يوم تبلغ فيه درجات الرطوبة في المدينة 90 في المئة كان في العاشر من شهر أغسطس الحالي. وحينها كانت نيويورك على وشك أن تشهد عاصفة ثلجية. بل إن بضع بوصات من الثلج تساقطت في أنحاء مختلفة من المدينة في شهر يوليو الماضي. وحينها صرح "جو بولينا" -خبير الأرصاد الجوية لدى "خدمات الطقس القومي"- لصحيفة "لوس أنجلوس تايمز" شارحاً أسباب تلك العواصف الخفيفة التي هبت على المدينة وقتئذ بقوله إنها كانت نتيجة لهبوب رياح قطبية غربية باردة، واصلت مسارها على نحو مألوف جنوباً. وللعلم، فإن الرياح الغربية عادة ما تمثل الحد الفاصل بين التيار الهوائي الشمالي البارد والتيار الهوائي الجنوبي الأكثر دفئاً. وفي تلك المنطقة الحدودية بين التيارين، عادة ما تبدأ العواصف. فهل لما حدث في نيويورك يوم الثلاثاء الماضي علاقة بظاهرة التغير المناخي حقاً؟ والسؤال المحير هنا هو: كيف لعالم ترتفع درجات حرارته أن تشهد مواسم صيفه هبوب عواصف ثلجية؟ كيف لأيامه الحارة المشمسة أن تشهد تساقط الثلج؟ الإجابة عن هذه الأسئلة نجدها في ما يقوله علماء المناخ من أن كرات الثلج تتشكل وسط العاصفة الرعدية ما أن تتجه السحب الحاملة لقطرات الماء للأعلى باتجاه التيارات الهوائية الأكثر برودة. وهناك تتجمد كرات الثلج وتبدأ رحلة عودتها مرة أخرى باتجاه الأرض. بل إنها تسهم في تشكيل مسطحات ثلجية أكبر أثناء رحلة صعودها وهبوطها. وفوق ذلك، فقد استنتج علماء المناخ أن حدة تزايد هبوب العواصف عادة ما تشير إلى حالات تغير مناخي. وهذا هو ما يثير اهتمام العلماء والمختصين بدراسة التقلبات الغريبة التي شهدها طقس مدينة نيويورك مؤخراً. ------- موازيس فلاسكويز - مانوف كاتب أميركي متخصص في الشؤون العلمية ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"