لا شك في أن الشكوى القديمة التي عبر عنها الأكاديمي الأميركي ذو الأصل الفلسطيني إدوارد سعيد، حول ما لمسه خلال وجوده في الغرب من دور سلبي يقوم به الباحثون المستشرقون تجاه طمس الحقوق الفلسطينية، وإنشاء أسانيد للمزاعم الصهيونية في امتلاك فلسطين.. لا شك في أنها تستحق أن نعود إليها، فلقد كررها حديثاً بعض طلابي العائدين من الجامعات الغربية. لقد لاحظ سعيد أن محاولات الكُتاب الأميركيين من أصول عربية لم تفلح في اختراق الأطر الفكرية والأسيجة الذهنية الراسخة لدى الأكاديميين والإعلاميين والطلاب الغربيين، والتي خلقتها بحوث المستشرقين اعتباراً من القرن التاسع عشر وظهور الفكرة الصهيونية ودعوتها لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. لقد أوضح البروفيسور "كيث وايتلام"، وهو أستاذ للديانة في جامعة استيرلنج، أن هناك مدرسة فكرية تتحكم في البحوث الغربية عن تاريخ فلسطين أسماها بالمدرسة التوراتية، وذلك في كتابه "اختلاق إسرائيل القديمة- إسكات التاريخ الفلسطيني". إنها مدرسة تغمض العيون عن الحقائق التاريخية التي تؤكد أن فلسطين كانت موطناً لشعوب مستقرة، بنت المدن والممالك والحصون لحماية نفسها قبل مجيء بني إسرائيل، وهي حقائق تقرها التوراة وأسفار العهد القديم خاصة في سفر يشوع الذي يصف المعارك التي خاضها بنو إسرائيل عند دخولهم عبر نهر الأردن عند أريحا بعد خروجهم من مصر. وفي هذا السفر وغيره، نلتقي بأسماء الشعوب السامية الوافدة من الجزيرة العربية مثل الكنعانيين والأموريين والحثيين واليبوسيين والفرزيين والحويين، ونقرأ في أسفار العهد القديم أيضاً أسماء الممالك والمدن التي حاربها يشوع بن نون خادم موسى النبي مثل عاي وأورشليم وأريحا وجبعون ويرموت ولخيش وغزة وعجلون وحبرون وغيرها. ويشير "وايتلام" إلى أن هذه المدرسة التوراتية تصمم على اعتبار أن التاريخ يبدأ في فلسطين مع دخول بني إسرائيل الذي يرجح الباحثون أنه حدث حوالي عام 1200 ق. م، والذي يعتبر في العصر الحديدي، وفي هذا الإطار يهمشون تاريخ فلسطين السابق ويعتبرونه مجرد تحضير لمجيء بني إسرائيل وينكرون الحضارة الكنعانية وما كشفت عنه الحفريات من آثارها ويعتبرونه جزءاً من التاريخ الإسرائيلي القديم لتبرير الاستيلاء على فلسطين في القرن العشرين. ومن الواضح أن الجهود التي تحاول الخروج عن هذه الأطر الفكرية تتعرض للإسكات ويتعرض أصحابها للعزل الوظيفي كما بين "وايتلام" في كتابه المذكور. وقد أشار إلى التجربة العلمية التي قام بها البروفيسور هوماس تومبسون أستاذ علم الآثار في جامعة ماركويت الأميركية في كتابه بعنوان: "تاريخ مبكر للشعب الإسرائيلي من المصادر الأثرية المكتوبة". ففي الكتاب السابق، انتهى البروفيسور إلى أن مجموع التاريخ الغربي لإسرائيل والإسرائيليين يستند إلى قصص من العهد القديم من صنع الخيال. وقد تعرض هذا البروفيسور للطرد من جامعته وصرح نائب رئيس الجامعة بعد الاعتراف بالمكانة العلمية للرجل بأن الجامعة تحصل على دعم من الكنيسة، والمهم في نظر الكنيسة ليس أن تكون للنصوص التاريخية قيمة فحسب، بل أن تتفق أيضاً مع وجهة نظر قواعد العقيدة. إن هذا النموذج لحرمان أستاذ من وظيفته يفسر جزئياً الشكوى التي عبر عنها الأستاذ الأميركي- الفلسطيني الأصل إدوارد سعيد، وتقدم تفسيراً أيضاً لحكم "وايتلام" في كتابه بأن الكفاح من أجل منح التاريخ الفلسطيني فرصة للحديث عن نفسه على نحو صحيح، قد أخفق. إن مصادرة التاريخ الفلسطيني القديم وتصويره كمجرد هامش تمهيدي لظهور "البطل الأوحد" وهو إسرائيل القديمة، ومصادرة التاريخ التالي لوجود إسرائيل، وتصوير الأرض الفلسطينية كأرض خالية منذ طرد منها بنو إسرائيل عل ىيد تيتوس الروماني عام 70م على نحو نهائي، هي مصادرة تلعب دوراً وظيفياً، إنه دور يصفه إدوارد سعيد بقوله": هكذا فإن إسرائيل تستطيع أن تطالب بحضورها التاريخي بناء على ارتباطها الأبدي بمكان ما، وهي تدعم عالميتها بالرفض التام لأي ادعاءات تاريخية أو زمنية مضادة من جانب العرب مستعينة في ذلك بالقوة العسكرية". ويقول البروفيسور "وايتلام"، لقد كانت الدراسات التوراتية جزءاً مهماً من النظام المعقد والعوامل الأكاديمية والاقتصادية والعسكرية التي أنكرت على الفلسطينيين مكاناً في العالم المعاصر وفي التاريخ، حيث إن الدراسات الأكاديمية الغربية قد أشارت إلى المنطقة في الفترة البرونزية المتأخرة وفترة العصر الحديدي على أنها فلسطين ووصفوا اقتصادها بالفلسطيني والساحل الفلسطيني...إلخ، ولكن شعبها نفسه أبقوه بدون اسم وألصقوا به وصفاً عرقياً معيناً مما دعم الفرضيات بأن إسرائيل قد حلت محل هذا الشعب، وتجاوزته. إن هذه العقلية تكسب اليمين الصهيوني المتطرف فرصاً للتلاعب في الغرب وهي تلزمنا بأمرين، الأول محاولة التغيير هناك ومنع التأثير هنا.