لا يزال نائب مدير المخابرات المصرية يدور على الفلسطينيين والضفة ودمشق، رجاء أن يتمكن من جمعهم أو جمع "فتح" و"حماس" في 8/25 بالقاهرة. وقد كان هذا الشهر (أغسطس) من أصعب شهور هذا العام على مناضلي فلسطين وعلى القضية الفلسطينية. فعندما كانت "فتح" تستعد لعقد مؤتمرها العام ببيت لحم بعد تأخُّرٍ وتأجيلات دامت عشرين عاماً، كانت كلُّ الحوارات مع "حماس" قد توقفت وكأنما الاجتماعات التي عقدت على مدى عام على أرض مصر، غير مفيدة شيئاً باستثناء زيادة الانقسام! وقد أمعنت "حماس" في الخصومة عندما منعت منسوبي "فتح" من التوجُّه إلى الضفة الغربية للمشاركة في المؤتمر، رغم الوساطات التي أتت من كل حدب وصوب. وكأنما لم يكفِ ذلك كله، إذ نشبت فجأة معركة برفح بين مسلحي "حماس" ومسلحين متطرفين سمَّوا أنفسهم "جند أنصار الإسلام" اتهموا "حماساً" بعدم تطبيق الشريعة وأرادوا إقامة "إمارة" (نعم، إمارة!) لهذا الغرض الذي زعموا أن "حماساً" فوَّتتهُ أو خانتهُ! ورغم أن انعقاد مؤتمر "فتح" كان ظاهرة إيجابية، وكذلك الوصول لنتائج، لكن ذلك التناحُر الذي بدا على عضويتي المجلسين المركزي والثوري، أظهر أن الأوضاع في "فتح" ومعها ليست خيراً من الأوضاع مع "حماس" في غزة. وخلال ذلك، استمرت التجاذباتُ من حول الفلسطينيين وقضيتهم بعد مرور ثمانية أشهر على وجود مبعوث الرئيس الأميركي جورج ميتشل بالمنطقة، فالإسرائيليون لايزالون يجادلون في الاستيطان وإيقافه، والأميركيون يريدون من العرب اتخاذ إجراءات لبناء الثقة، لكأنما "الثقة" مطلوبة وحسب من أولئك الذين تُحتلُّ أرضُهُم منذ عقود وعقود، والثقة بالمحتل ومعه! في الوقت الذي يتفاوض فيه السوريون مع الأميركيين والأتراك والفرنسيين والقطريين والإيرانيين والأوروبيين على طرائق وغوامض ليست لها بداية ولا نهاية. وهكذا، وفي تأمل غير مُتحزِّب ولا مُتعنِّت، يبدو الفلسطينيون في أوضاع يحوطها البلاء والإحباط والمعاناة، يبدون واقعين بين الفتنة والمحنة. والفتنة في المصطلح العربي والإسلامي، القديم والحديث، تعبير عن الحرب الأهلية والداخلية، وهي حربٌ لها عدة وجوه وطبقات. فالوجه الأول لها وجود عشرات التنظيمات التي تعمل كلها على تحرير فلسطين، ولا تُنسِّقُ حقاً فيما بينها، حتى تلك المنضوية منها في "منظمة التحرير". والوجه الثاني للفتنة، هو الدماء التي سالت ولاتزال بين "فتح" و"حماس"، بحيث صار أسهل على كل منهما قتل أخيه من قتل العدو الإسرائيلي، مما دفع الملك عبدالله بن عبدالعزيز لمخاطبة الفلسطينيين قائلاً، إن انقسامكم أشدّ ضرراً على قضيتكم من الإجرام الإسرائيلي! والوجهُ الثالث لها، وجود مزايدات دموية بين المتطرفين الإسلاميين والأشد تطرفاً. فبعد "جند أنصار الإسلام"، هناك فيما يقال -وفي غزة بالذات- أربعة تنظيمات سرية أو علنية مستعدة لمقاتلة "حماس" و"فتح" بحجة خيانة الإسلام، دون أن يكون لها اهتمام يذكر بالتحرير أو مقاتلة إسرائيل. والوجه الرابع، هو الحرب الباردة التي انتهت في سائر أنحاء العالم إلا في العالم العربي. فهناك أربع دول عربية تعاني الخراب، وأربع أخرى مهددة بالمصير نفسه. وفي الوقت الذي يعجز فيه العرب المهددون من المحيط إلى الخليج، عن التماسك في الحد الأدنى، يتقدم جيرانُهُم الإيرانيون والأتراك للمساعدة؛ الإيرانيون للمساعدة في التحرير، والأتراك في الوصول إلى السلام والاستقرار! ويستخدم كلا الطرفين الفتنة بين الفلسطينيين سبيلاً لبلوغ النفوذ في قلب المشرق والخليج، فيفاجئهم الرئيس بشار الأسد بعرض تحالف رُباعي يضم سوريا والعراق مع الإيرانيين والأتراك، وحجته في ذلك أن التعاون مع إيران وتركيا يشكل بديلاً من أجل التوازن مع التحالف الأميركي- الإسرائيلي. وسط هذه الوجوه الأربعة للفتنة، يقف الفلسطينيون مشدودين ومنقسمين، فبالإضافة إلى الانقسام بين التنظيمات، وبين "فتح" و"حماس"، هناك الانقسام الناجم عن سياسة المحاور المتجددة بالمنطقة، وبين محوري ما يعرف بـ"الاعتدال"، وما يعرف بـ"الممانعة" أو "المقاومة". وكل الأطراف الفلسطينية تعرف أن بُناة المحاور لا يقصدون إلى التحرير ولا إلى تقوية جانب الفلسطينيين، وإنما يريدون منهم شنّ حروب باسمهم، كما حصل في حالتي لبنان (2006) وغزة (أواخر عام 2008). إن هذه الفتن المشتعلة والمتنقلة في قلب أهل فلسطين ومن حولهم، تضعهم في مواجهة الضياع الكامل، وخسارة نضال زُهاء خمسين عاماً أو يزيد. ويعني ذلك أنها تُدخلهم في موقع أو حالة المحنة، أي المحنة مع الذات ومع الضمير ومع الإحساس الأخلاقي العميق والاختبار المصيري الذي يوشك أن يكون مصيرياً على المستويين الفردي والجماعي. وإذا كان الإسلاميون على شتى أصنافهم وظلالهم، هم الذين يسودون الساحة العربية والفلسطينية الآن، فإنهم يعرفون أو ينبغي أن يعرفوا ماذا يعنيه ذلك. فالفتنة محنة، وسفك الدم محنة، والخيار المجازف محنة، والعمل لهذا الطرف أو ذاك لكسب دعمه محنة، وهي محنة تقع بين الضمائر والسرائر من جهة، والأقدار من جهة أخرى. لقد قال لي إسلاميٌ فلسطينيٌ بارز إنه نصح "حماسا" على مشارف الاستيلاء على غزة أن لا تفعل ذلك خشية الفتنة والمحنة معاً. الفتنة التي تعني قتل أخيك، والمحنة التي تعني قتل نفسك. والواقع أن قتل الإحساس الأخلاقي الذاتي يجعل الفتنة سهلة جداً، والانزلاق إلى سفك الدم المصون والحرام مثل شربة الماء، وقد جرى سفك الدم بالفعل، أي جرى خوضُ الفتنة والمحنة معاً، ومرة بحجة الردَّة والخيانة، والآن -مع عبداللطيف موسى وتنظيمه- بحجة مخالفة القانون الذي كانت "حماس" من قبل تعتبره طاغوتاً! إن الوقوع أو الانكفاء بين الفتنة والمحنة، جعل من مواجهة العدو الإسرائيلي أمراً من الدرجة الثانية، أما الأولوية فصارت للغلبة على هذه البقعة أو تلك، وفي هذه الوسيلة الإسلامية أو تلك. وقد جعلني ذلك أفهم معنى المبدأ الإسلامي القديم: الاعتدال في الفتنة. وقد قدرتُ لعدد من الفتحاويين القُدامى عدم الترشُّح للمناصب في مؤتمر"فتح" الأخير. وهذا ليس زهداً ولا ترفاً ولا عجزاً، بل إنه النجاح في المحنة، والنجاة من الفتنة، فالتوقُّف والصبر في هذا الهول الذي يجد الفلسطينيون والعرب أنفسهم فيه، ليس دخولاً في الهزيمة، بل هو تمرد عليها؛ لأنه رفضٌٌ للدخول في الانقسام. ماذا يعني اجتماع "فتح" و"حماس" بالقاهرة في 8/25 وسط ظروف الاستقطاب التي شرحناها؟ إنه الفرصة الأخيرة، ليس للتوافق والوحدة -فهذا أمر بعيد المنال- بل لتجميد النزاعات، والعودة للنظر إلى ما حولهم، وما حولهم أن الإسرائيليين لا يرون أن السلام أو حتى التفاوض في صالحهم الآن. ثم إن الأميركيين وبعد جهود هائلة في دمشق ومعها يبدو أنهم لم يتفقوا مع السوريين. ثم إن إيران تتجه لتصعيد النزاعات، بالمشرق العربي -وقد جرّبت نجاحاً في ذلك في السنوات الماضية- لصرف الأنظار عن مشكلاتها الداخلية، واستعادة الهيبة تُجاه الولايات المتحدة وأوروبا. وهذا يعني أن الفلسطينيين والعراقيين واللبنانيين سيتعرضون لاختبارات ومحن وفتن قد لا تقلُّ هولاً عن حروب الأعوام الماضية. ولذا فإن الأولوية الآن للاستعصاء على الاستخدام، ولو كان الإغراءُ عظيماً، أو التحدي عظيماً، مثل الاتهام بالعجز أو الجُبْن أو الخيانة أو التهديد بعدم الإعانة أو إلغاء التحالف. كنت أدرِّس باليمن عام 1990/1991 عندما جاء إليها أبو إياد -رحمه الله- قادماً من العراق بعد احتلال صدام حسين للكويت. وجمعنا به مجلس، فقال الرجل إن صدّاماً قال لعرفات بحضوره إنه إنما أراد من وراء عمليته تحرير فلسطين! ومضى أبو إياد قائلاً: إنه تدخّل بالحديث منتهزاً لحظة صمتٍ وذكر لصدّام أنه مضى على ضياع فلسطين ما يزيد على خمسين عاماً وما أمكن، رغم كل الجهود العربية والفلسطينية، الاقترابُ من ذلك الهدف السامي. ولأنه ما بقيت للعرب قوة غير العراق؛ ولأن العالم كله بزعامة الولايات المتحدة يتجمع لتخريبه، فلن يخسر العرب شيئاً بل يربحون كثيراً إذا انسحب العراق من الكويت، ولو أدى ذلك إلى تأخير تحرير فلسطين عشراً أو عشرين سنة! ما عاد عربيٌ يصدق أن الخلاف بين الفلسطينيين أو العرب إنما سببه الخلاف على مناهج تحرير فلسطين، والاعتدال أو التطرف في ذلك، فلا أقل من أن نحاول الآن التوقُّف عن سفك دمائنا بأيدينا، فنخرج عن الفتنة، وننجو من المحنة، ويكون ذلك بالفعل من أجل فلسطين، وأطفال فلسطين.