قبل عامين من مثل هذا اليوم خرجت من سجن "إيفين" بعد قضائي مائة وخمسة أيام في الحجز الانفرادي؛ فقد اعتقلت في مطلع عام 2007 بتهمة سخيفة تقول إني سعيت إلى التحريض على "ثورة مخملية" للإطاحة بالحكومة الإيرانية، ليتم احتجازي كمعتقلة لدى وزارة الاستخبارات، لكن الرئيس نجاد نفسه اعترف بسخافة التهم الموجهة إلي، موضحاً سبب إقالته لرئيس الاستخبارات خلال الشهر الجاري، حيث لاحظ أنه أصبح محط سخرية عندما اتهم "امرأة سبعينية" بالتخطيط لتنظيم ثورة، مؤكداً أنه كان يفترض برئيس الاستخبارات كشف المحرضين الحقيقيين وفضح مخططاتهم. وما لا تدركه الحكومة الإيرانية أنها بينما تطارد محرضين متوهمين فهي تلحق أبلغ الضرر بنفسها وبالمجتمع دون أن تعي ذلك، وهو ما شهدناه بأعيننا خلال الاحتجاجات التي أعقبت الانتخابات الرئاسية الأخيرة، والاعتقاد الواسع الذي ساد بين فئات عريضة من الإيرانيين بأنها زورت، حيث اعتُقل أكثر من مئة متظاهر، وسيق قادتهم إلى المحاكم خلال الشهر الجاري. لكن ماهي التهمة الموجهة إليهم؟ الحقيقة أنها لم تختلف كثيراً عن تلك التي واجهتها أثناء اعتقالي والمتمثلة في التخطيط لإطلاق ثورة مخملية بالتعاون مع حكومات أجنبية، ولم تقتصر قائمة المتهمين هذه المرة على المتظاهرين العاديين المنتمين إلى فئات الشعب العريضة، بل امتدت أيضاً إلى نائب رئيس سابق، وأعضاء سابقين في البرلمان، فضلا عن استراتيجيين ورجال فكر كانوا قد ساندوا مرشحي الرئاسة المعارضين، مير حسين موسوي، ومهدي كروبي، ليبدو الأمر في النهاية وكأن الثورة الإسلامية تنقلب على أبنائها. وطوال الأسابيع التي خضعت خلالها للاستنطاق في عام 2007 أدركت الخوف المرضي الذي يحرك أجهزة الأمن الإيرانية ومن يقف وراءها من متشددين، فهؤلاء يخشون من الإطاحة بهم على أيدي حركات شعبية شبيهة بتلك التي شهدتها دول أوروبا الشرقية، كما أنهم أقنعوا أنفسهم بأن تلك الحركات لم تكن نابعة من الشعب، بل هو مخطط دبرته الولايات المتحدة، ويعتقدون أن أميركا تخطط للشيء ذاته في إيران. وفي سياق شرحهم لأفكارهم، أوضح المكلفون باستجوابي أن الولايات المتحدة، وهي تعاني ما تعانيه في العراق وأفغانستان، لم تعد قادرة على التحرك عسكرياً ضد إيران، فانخرطت بدلا من ذلك في خطة تدريجية لتغيير النظام في طهران، مُسندة في هذا الإطار دوراً مهماً للجامعات الأميركية البارزة ومراكز التفكير. وحسب الأجهزة الأمنية الإيرانية، فإن تلك المؤسسات الفكرية تستهدف المثقفين الإيرانيين باعتبارهم الطبقة ذاتها التي قادت الثورات السياسية في جورجيا وأوكرانيا من خلال برامج التبادل الثقافي التي تركز على استقطاب أصحاب الفكر، من صحفيين وأكاديميين ونشطاء سياسيين وتحوليهم إلى متواطئين، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة للإطاحة بالنظام وإطلاق ما يسمونه "الثورة المخملية". وهكذا كان يفترض أني العقل المدبر الذي يقف وراء المخطط، أو على الأقل أحد وجوهه البارزة، فعرض علي إطلاق سراحي إذا اعترفت بتورط مركز "وودرو ويلسون" الذي أعمل به، لكني كنت أرد دائماً بأن إيران ليست إحدى جمهوريات الموز حتى يُطيح بنظام الحكم فيها عشرون أكاديمياً وهم متحلقون حول طاولة للمؤتمرات. وحتى عندما أُفرج عني أخيراً وجدت التهم ذاتها وقد وجهت إلى معتقلي الأحداث الأخيرة بعد الانتخابات الرئاسية، فباستخدام المنطق ذاته ربط المدعي العام بين الحكومات الأجنبية و"بي بي سي" وباقي الصحفيين ومحاضرة للغة الفرنسية وبقايا الملكيين المناهضين للنظام، وبين قائد سابق للجمهورية الإسلامية... وكلهم، حسب هذا التفكير، متورطون في محاولات تغيير النظام والإطاحة بالجمهورية! وهكذا عندما تدفق مليون إيراني إلى الشوارع محتجين على تزوير الانتخابات وسرقتها من المرشح الإصلاحي موسوي، ارتبك النظام وجمدت الدماء في عروقه، إذ بدا وكأن أسوأ مخاوفه في طريقها للتحقق، ولم تتنبه الحكومة إلى أن المتظاهرين كانوا يطالبون بالإصلاح وليس الثورة. فقد رأى المتظاهرون في موسوي، الذي يعد أحد رجال النظام، فرصة للتغيير بما يعنيه ذلك من إقرار حريات سياسة واجتماعية أكبر، وإنهاء الخوف من الشرطة السرية والأخلاقية، وانتهاج سياسية خارجية أكثر اعتدالا، فضلا عن انفتاح أكبر على العالم الخارجي... بيد أن هذه التغييرات هي ما كان المتشددون يخشونه على الدوام، حيث برزت العناصر الأكثر تطرفاً داخل النظام مستغلة مشاعر الخوف لفرض أجندتها والتخلص من المعتدلين والإصلاحيين. ومن هنا نفهم المحاكمات الصورية، والاعترافات القسرية، والدعوات المطالبة بمقاضاة موسوي وكروبي. والنتيجة هي انقسام كبير في القيادة الإيرانية واشمئزاز كبير من المحاكمات في الداخل قبل الخارج، لاسيما بعدما وصفت بعض الوجوه المعروفة في إيران المحاكمات بأنها "ستالينية"، وبعد إصرار كروبي على التمسك بتهمة تعرض المعتقلين للتعذيب والاغتصاب، ناهيك عن سهام الانتقادات التي توجه للمرشد الأعلى. وكما أشار إلى ذلك كروبي، لن يستطيع النظام إخماد الاستياء العام للإيرانيين. وإذا كان الكابوس الذي يزعج المتشددين أكثر من غيره هو الاضطرابات التي يغذيها الخارج، فإنه يبدو، وللمفارقة، أنهم حققوا بأيديهم ما عجز عنه "أعداؤهم" الأجانب: فقد زرعوا بأنفسهم بذور ثورة إيران المخملية دون الحاجة إلى تدخل الجهات الأجنبية. هالة إسفندياري مديرة برنامج الشرق الأوسط في مركز "وودرو ويلسون الدولي" ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"