عاشت الكويت الأسبوع الماضي كارثة مأساوية بسبب حريق خيمة عرس في منطقة العيون بالجهراء شمال الكويت، وقد تسبب الحريق بموت ست وأربعين امرأة وطفلاً، وتضرر محترقاً أكثر من تسعين من الأطفال والنساء. الكارثة هي الأكبر حصداً للأرواح في تاريخ الكويت في حادثة واحدة منذ عام 1872م، ففي ذلك العام الذي سمي بسنة "الطبعة" -التي تعني الغرق باللهجة الكويتية- غرقت مجموعة من السفن الكويتية المبحرة إلى الهند في بحر العرب نتيجة إعصار تسبب بموت المئات من البحارة وربابنة تلك السفن. قبل الحريق الكارثي بأيام، شهدت الساحة الكويتية احتقاناً وتلاسناً نيابياً وإعلامياً طائفياً غير مسبوق: جدل حول زيارة القبور في المناهج التعليمية، ونائب "يتلاطش" بالتصريحات مع زميل له حول شخصيات تاريخية، وشيخ شيعي معمم ينتقد ابن تيمية ويصف أتباعه بـ"التكفيريين"، ومجلة سلفية ترسم مشبهة ذلك الشيخ بسمكة قرش ضخمة تلبس عمامة سوداء وتفتح فمها استعداداً للافتراس، وصحيفة يومية تقذف حممًا طائفية يومية للرد على المجلة السلفية. ورسالة مكتوبة يستلمها فلكي معروف تهدده بسبب مذهبه، وأخرى تستلمها نائبة في البرلمان تنعتها بأقذع الألفاظ الطائفية، وتهددها بالويل والثبور، وجماعة سلفية تسمي نفسها "ثوابت الأمة" تتراشق البيانات مع أخرى تسمي نفسها "ثوابت الشيعة"، وهكذا. كان المشهد مختطفاً من قبل الطائفيين بامتياز، وغالبية الكويتيين يرقبون ما يجري بقلق وحيرة، والاصطفاف يباعد بينهم شيئاً فشيئاً، وصوت العقل في تراجع، فأصوات النشاز هي سيدة الموقف، على الرغم من تنادي العقلاء بضبط النفس والتحذير من عواقب الأمور لو استمر التجاذب بين الطائفيين دون رادع. ثم وقعت الكارثة: المحرقة حرقت قلوب الكويتيين، وأبكت كل من تابع المشهد الحزين، وجرت دموع العيون على حريق "العيون"، ولا زالت تداعيات المأساة تخيم على الساحة الكويتية، لكن المأساة أظهرت جوانب حسنة وإيجابية للمشهد الكويتي، وعكست تلاحماً ظن البعض لوهلة أنه تلاشى نتيجة التناحر الطائفي البرلماني والإعلامي. اصطف على إثر الكارثة آلاف من الكويتيين في طوابير أمام مراكز التبرع بالدم دون إعلان رسمي، كانوا من مذاهب وأطياف مختلفة في المجتمع، وتناسوا كل ما قد يفرق بينهم، فالمأساة وحّدتهم، ورصّت صفوفهم. وامتلأت الصحف بإعلانات التعزية من الشخصيات المعروفة والعامة والمراكز الدينية والحسينيات، وتناقلت الهواتف الجوالة آلافاً من رسائل التعزية بين الكويتيين، وأعلن أمير الكويت -الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح- عدم استقبال المهنئين بشهر رمضان حداداً على أرواح الضحايا، واقتدى به أصحاب الديوانيات الكويتية جميعاً، ومجموعة شعبية متطوعة دعت إلى إنشاء لجنة شعبية لمساندة أسر ضحايا المنكوبين. عكس المشهد روحاً كاد الجهلة والمتطرفون يختطفونها، وأثبت أن الجهلة والطائفيين قلة قليلة، لكنها قلة خطرة على تعايش المجتمع، ولديها قدرة فائقة على حرق المركب بمن فيه، وقابلية للاشتعال السريع وإحراق الأخضر واليابس. الطائفيون، وليس الطوائف العراقية، هم الذين أشعلوا حرباً طائفية، والطائفيون اللبنانيون قلة في كل طائفة، أحرقوا بلادهم سنين طويلة، ولا زالوا يسنّون سكاكينهم الطائفية المضرجة بدماء الأبرياء من أبناء شعبهم، والمشهد الكويتي قابل للتفاعل مع محيطه، ومن يعتقد أن الطائفية سمة بلد واحد فقط، فعليه أن يراجع حساباته الذهنية، فملة التطرف واحدة، ولغة الطائفيين حمراء اللون فاقعة لا تسر الأبرياء والناظرين. يخيم حزن على الساحة الكويتية هذه الأيام، لا يبدده سوى استقبال شهر رمضان المبارك، ويسود هدوء طائفي مشوب بالحذر، لأن الطائفيين لا زالوا يعيشون بيننا في زوايا مظلمة... حريق "العيون" أطفأ حرائق على الساحة الكويتية، فهل يبكي الطائفيون العيون ثانية؟ د. سعد بن طفلة العجمي