هل أصبح العالم العربي يقود حروبه عبر طرق همجية وبربرية، لا قدر فيها أو قيمة لحياة بشرية أو لأماكن دينية كالمساجد وأماكن العبادة، وغيرها من المقدسات. تساءلت في نفسي هذا الأسبوع حين رأيت المساجد تستهدف في صلوات الجمعة في العراق، وفي اليمن. وتأملت في خاطري كيف يمكن استهداف البشر الذين يؤدون صلواتهم، حتى لو كانوا غير مسلمين، فكيف بهم وهم مسلمون؟ وحاولت أن أنظر إلى أصل كلمة الهمجية عند العرب الأولين، لعلي أفهم دلالاتها ومقاصدها عندهم، فعدت إلى "لسان العرب"، ووجدته يصف الهمج بأنه "ذباب صغير يسقط على وجوه الغنم والحُمر وأعينها"، وربما كان بعوضاً، ويقول "اللسان" إن الهمج من "أراذل الناس". واستغربت من حكمة العرب التي تربط الهمجية بالرذيلة وانعدام الأخلاق، على وجه العموم. وكيف أن الهمجية تبلغ زباها في حال حوادث العنف والحروب الأهلية، حيث يفجر الواحد نفسه في الأسواق العاجّة بالناس ليقتل بذلك الصغير والكبير، والمدني وغير المدني. ويفجر الواحد منهم البشر في أماكن العبادة والناس قانتون لربهم، مبتهلون إلى رضوانه. وحتى إذا لم نتفق مع طقوس تلك الأديان والمذاهب، فإن ذلك لا يخولنا أن نمارس العنف ضد المصلين، أياً كانت ديانتهم أو ملتهم. ونعود إلى "لسان العرب"، فالهمج حسب تعبيره "الهُمل الذين لا نظام لهم"، فهم "يموج بعضهم في بعض". واستغربت من العرب الأوائل الذين يربطون الهمجية بانعدام النظام، وهم الذين لم يعرفوا سلطة مركزية قوية، إلا في أحقاب تاريخية قصيرة من أزمانهم. ثم يعود "لسان العرب" فيسمي الهمج "الرعاع من الناس"، واليوم نشهد حتى بعض المتعلمين الذين يحلو لبعضهم أن ينهج منهج الرعاع، سواءً في تبني الآراء، أو استحسان العنف ضد المدنيين. ويربط "اللسان" الهمجية بكبر سن الحيوانات وهرمها، "ولعلها هزلت من كثرة الرضاعة". وحين يصف العرب بيئتهم الحيوانية، فكأني بهم أيضاً يصفون بيئتنا السياسية والاقتصادية الحالية. فالمجتمعات الهرمة، والدول شبه الفاشلة، كما نسميها اليوم، هي التي تستفحل بين شعوبها ورعاعها أعمال همجية، خاصة ضد بعضهم بعضاً. ويربط "لسان العرب" أيضاً الهمجية بالحمق وكذلك الجوع والعطش، فالإبل تهمج همجاً، أي تشرب الماء دفعة واحدةً، فهي "إبل هوامج"، وهو يربط الفعل الهمجي بـ"أراذل الناس"، فهم حمقى، وهميج هامج. (انتهى ما أورده "اللسان"). والحقيقة أن الحروب وإن كانت دامية فإن لها أخلاقاً نسيناها أو تناسينها، فالحروب كانت دائماً ذات هدف سياسي، ويذهب المنتصر فيها إلى أن يفرض رأيه وخلقه ولغته على المهزومين والمنكسرين، وإذا عمد إلى الهمجية في حربه فإنه يكون قد فقد جزءاً من كيانه الأخلاقي، وبالتالي لن يتمكن من إعادة بناء نظام سياسي وأخلاقي جديد مكان النظام الذي سبقه. فالحرب الأهلية وإن كانت عدمية، فإنها تبقى ذات "هدف سياسي". وفي جميع الحروب الغابرة سعى المحاربون إلى إرساء قواعد إنسانية للحرب تتفادى إيذاء المدنيين أو قتلهم. وعبّرت تشريعات القانون الدولي، التي لا يحترمها أحد وللأسف هذه الأيام، عن قواعد أخلاقية في القتال، لا يسمح بانتهاكها، أو خرقها. وجاءت الأديان كذلك لتحرم قتل الطفل والمرأة والشيخ الكبير، أو حرق المزارع والثمار، أو الاعتداء على أماكن العبادة. غير أن الأخلاق والشرائع القانونية فيها والدينية قد أصبحت وللأسف غير ذات قيمة بين من يستهدف البشر، لا بل وتغاضينا في خطابنا الديني عن مثل هذه الجرائم، ولم ندنها بما يكفي بأن يجعل من فاعليها مجرمين، ليس في نظر القانون فحسب، ولكن في نظر المجتمعات العربية والمسلمة، فينبذ فاعلها وتحتقر الآراء التي تدعو إلى مثل هذه الأعمال الإجرامية. وكلما ازدادت همجية المجتمعات، كلما اختزلت تاريخها ومستقبلها، ولنا في المغول والتتار وهجماتهم التاريخية ضد بغداد وغيرها من الحواضر الإسلامية أشنع مثال حيث كانوا يستخدمون العنف والهمجية كهدف في حد ذاته، ولم يكن لهم برنامج سياسي، أو نهج أخلاقي. ولذلك فقد اندثرت تلك الهجمات على المشرق العربي حين وصلت إلى مرحلة الإنهاك الذاتي، ولكن للأسف ليس قبل أن تقضي على الدولة العباسية وحضارتها الزاهرة. وفي العصر الحديث، حيث ازدادت همجية بعض الدول المهيمنة، انتبه بعض العقلاء من زعمائها وساستها إلى هذا الانحراف التاريخي، ورأوا فيه منزلقاً خطيراً لحضارتهم، ونهاية لهيمنتهم، وسيطرتهم التجارية على العالم. ولذلك فقد نكصوا عن النهج القديم جزئياً، وآثروا أن يضفوا نوعا ًمن العقلانية المحدودة والأخلاق المستعارة على بعض تصرفاتهم وأعمالهم الحربية، حتى يضمنوا لها القبول المؤقت من قبل شعوبهم. وقد يرى كثيرون أن العنف والأخلاق لا صلة لأحدهما بالآخر، وأن من يحمل السلاح قد يسكت ألف خطيب. ولكن البندقية والقنبلة المنفجرة في سوق مزدحم، أو مسجد يصلي فيه الناس، لا يمكن لها أن تسكت كلمة الحق وداعي السلم، والمنادي بالأخلاق، بل إن الخطر يكمن في ابتزاز صاحب الكلمة الحقّة وجعله يذعن أمام من يحمل السلاح في وجه الأطفال والمسالمين. إن الواجب الأخلاقي يحتم على شيوخنا ورجالات الدين في أوساطنا العربية والإسلامية أن يدينوا هذه الأعمال المشينة بكل الطرق والوسائل الممكنة، وإذا كان هؤلاء المجرمين يعتقدون أن انتحارهم في مثل هذه الأعمال سيوصلهم إلى الجنة، فإنهم كاذبون، وينبغي أن يُشعر العالم من حولهم، بأن "مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً، وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً". والراهن أن المجتمعات العربية والإسلامية بعد أن أصبحت ضحية للحروب وطاحونة للنار من قبل الأعداء، غدت اليوم تستسيغ انتشار العنف حتى بين أبنائها. ولقد حان الوقت للصدع بكلمة الحق وإدانة هذه الأعمال الإجرامية ونزع الرداء الأخلاقي والديني المزعوم الذي يضعه هؤلاء المجرمون على وجوههم، وهم مجرمون بحق شعوبهم ومجتمعاتهم. لقد كانت مكارم الأخلاق صفة وسمة تسمو بها أخلاق العربي، وحين جاء الإسلام عمق من هذه السمات، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم "ليتمم مكارم الأخلاق". أما اليوم فقد تناسينا هذه السمات السامية، وبدلاً من تهذيب أنفسنا، فقد انغمسنا في حب العنف وتقديسه، حتى غدا، هذا العنف يحل محل كل خلق كريم في أرواحنا. وأتساءل في قرارة نفسي: متى ينزع رجال الدين وأعلام القوم إلى النهي عن الانغماس في حب العنف والانجراف وراء الهمجية التي طرقت أبواباً عدة في مجتمعاتنا، حتى كادت تسد جميع الأبواب أمام رؤانا؟!