من ضمن المخاطر التي تحيط بالوطن العربي تآكل الأطراف وضعف القلب. فيضمر الجسم العربي حتى ينبض القلب من جديد فتعود الحياة إلى الأطراف. وقلب الوطن العربي عبر التاريخ مصر والشام، القاهرة ودمشق. فحدود عمق مصر الشرقي في الشام منذ أحمس والهكسوس والتتار والصليبيين وحتى نابليون ومحمد علي وناصر. فسيناء هي المدخل الشرقي لمصر. أتت معظم الغزوات منها قبل الاستعمار الغربي الحديث القادم من البحر، عبر الشمال. فمصر بحجمها وسكانها وتاريخها وثقافتها مركز ثقل في الوطن العربي. وسوريا بموقعها وعروبتها وحميتها المركز الثاني له. وكلما اتحدت مصر والشام قوي القلب وحمى الأطراف. وإذا ما انفصلت القاهرة عن دمشق بدأ التفتيت للقلب وللأطراف معاً. وفي العصر الحديث بدأت مقاومة الاحتلال الغربي من مصر. وساعدت مصر كل حركات التحرر الوطني في الوطن العربي. وكانت مركزاً لقادتها. والآن بدأ محور الاعتدال من مصر. وانفصلت عن سوريا. انشق القلب فتبعثرت الأطراف. وانجذبت نحو مراكز أخرى في آسيا أو في أوروبا، في الشرق أو في الغرب. وظهر ذلك في اللغة العربية آخر ما تبقى من مظاهر الوحدة والصلة بين المركز والأطراف. ففي الشمال، في العراق، تكلم فريق الكردية في كردستان العراق، وآخر الفارسية على طول الحدود مع إيران. والآن تغزو الإنجليزية من جديد بعد أن كانت قد تضاءلت منذ أيام الاستعمار. وحلت أميركا محل بريطانيا. والعراق معروف بأنه حامل لواء النهضة العربية، الشعر العراقي، والمجمع العلمي العراقي، ورئيسه محمد كرد علي الكردي، والثقافة العراقية. وقد ساهم العراق في الحركة الإصلاحية الحديثة عن طريق الألوسيين، شكري ومحمود، وفيها نشأ الشيخ محمد بن عبدالوهاب الذي تلقى تعليمه في العراق. وكانت مجلة "أقلام" إلى عهد قريب من أوائل المجلات الثقافية واللغوية العربية. وكل عراقي شاعر بالفطرة. والشمال مهدد أيضاً باللغة التركية في لواء الإسكندرونة كما حدث من قبل في ديار بكر. صحيح أن التركية والفارسية لغتان إسلاميتان، ولكن العربية هي لغة القرآن والثقافة والتاريخ. وفي الشمال أيضاً لبنان. كانت لغته العربية إلى عهد قريب مزاحمة بالفرنسية كجزء من الإطار الفرانكفوني. وما زالت الفرنسية هي لغة التعامل في الحياة اليومية في القطاعات المصرفية ولدى طبقة رجال الأعمال ولدى بعض الطوائف. في حين أن لبنان في الوقت نفسه تاريخياً هو حامي الثقافة العربية بمعاجمه في اللغة العربية، وبآدابه العربية، وبموسوعاته في التاريخ العربي، وفي الصحافة العربية. وهناك عائلات تقلا وزيدان واليازجي التي فرضت نفسها على الثقافة العربية. وكما قامت النهضة الإسلامية المعاصرة في مصر قامت النهضة العربية في سوريا ولبنان. ودور النشر اللبنانية أصبحت دعامة الثقافة العربية. والمؤسسات ومراكز الأبحاث والمجلات الثقافية العربية الآن في حضن لبنان. وساهمت الإرساليات والجامعات اليسوعية في تأسيس الدراسات العربية. وكانت محلاً لازدهار الاستشراق اللغوي والأدبي. وما زال الشامي في لبنان وسوريا والأردن يتكلم الفصحى في الإعلام أمام إعجاب العرب بعروبة الشام. وفي المغرب العربي حاول الاستعمار الفرنسي إحلال اللغة الفرنسية محل العربية، ودمر المدارس القرآنية وألغى تعليم اللغة العربية من التعليم العام، وجعل الجامعات باللغة الفرنسية. فالعروبة هي الأوطان. والنضال الوطني من أجل الهوية الوطنية، اللغة والثقافة. وساهمت مصر وسوريا في تعريب الجزائر بعد الاستقلال. وقويت حركة التعريب في تونس والمغرب بفضل علماء الزيتونة والقرويين. وأصبحت اللغة العربية هي عماد التدريس العام، وإن كان التعليم الجامعي مازال خاضعاً للغة الفرنسية. وظلت الفرانكفونية تياراً لغوياً ثقافياً بل وسياسياً في المغرب العربي ينتسب إليه أنصار التغريب. وما زالت الأمازيغية لغة وطنية في المغرب العربي بجوار العربية وليست بديلاً عنها. ومعها وليست ضدها. ومن الغريب أن يتكلم المغربي الأمازيغية والفرنسية أكثر من الأمازيغية والعربية. وهناك اللهجات المغربية والجزائرية والتونسية والليبية التي تزاحم العربية في الحياة اليومية، ولكنها تتوارى في الإعلام وفي الحياة العامة. وأصبح الفكر العربي في المغرب علامة على نهضة العرب الحديثة بالإضافة إلى المشرق حتى قيل "تمغرَب المشرق وتمشرَق المغرب"، دلالة على وحدة جناحي العالم العربي. وكان طريق الحج من المغرب إلى المشرق أحد عوامل الربط بينهما. وحافظ المغرب على العرب والعروبة بعد سقوط الأندلس والنزوح من إسبانيا إلى المغرب. وفي الخليج نظراً للعمالة الأجنبية إليه قد تسمع اللغات الأجنبية كالآسيوية أو الآسيوية المعربة. فالعمال المهاجرون يحملون معهم لغاتهم ولا يحافظ على العربية إلا المهاجرون العرب والسكان الأصليون. والقضية أخطر بالنسبة لجنوب الوطن العربي في جنوب السودان والصومال وجزر القمر وجيبوتي. فهي أجزاء من الوطن العربي لا تُسمع فيها العربية إلا نادراً لصالح اللهجات الأفريقية المحلية بعد أن صعب تعميم اللغة السواحلية كلغة لأفريقيا وسطاً وغرباً وشرقاً وجنوباً. وما زالت الأنجلوفونية أو الفرانكفونية تمثلان خطراً على اللسان العربي. ويزيد من تعقيد الأمور هناك تشابك قضية اللغة مع قضايا العرق والطائفة، الشمال مسلم والجنوب مسيحي، الشمال عربي والجنوب أفريقي. ويتجاوز الأمر اللسان إلى الرموز الوطنية مثل غطاء الرأس حتى عند الرؤساء، القبعة في مواجهة العمامة. الخطورة إذن على عروبة الأطراف. وتآكل الأطراف لغوياً بداية تآكلها ثقافياً وسياسياً، (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا)، ومرة أخرى، (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا)، مرتين للتذكير، مرة في الماضي كجزء من تجارب التاريخ، ومرة في الحاضر تنبيهاً على الخطر الحالي. ويضعف القلب الثقافي في مصر بانتشار العامية في الحياة اليومية وفي الإعلام وفي الإعلانات. كما انتشرت الألفاظ المعربة مثل "تيك آواي" وغيرها مئات من الألفاظ الأجنبية حتى أصبحت الفصحى محاصرة بين العامية واللغات الأجنبية. بل امتد الأمر إلى التدريس في الجامعات. وأصبح الأستاذ غير قادر على أن يحاضر لطلابه إلا بالعامية. وقوي دعاة العامية دفاعاً عن الشعر العامي والأدب العامي، وترجمة الآداب العالمية بالعامية خلطاً بين اللغة والشعب. ففي صحوة الدفاع عن الثقافة الشعبية ينسون اللغة الوطنية. ولدى كل الشعوب لهجات محلية شفاهية ولغة قومية للكتابة. وقد وحدت اللغة العبرية بعد تحديثها كل المهاجرين اليهود من مشارق الأرض ومغاربها على رغم سيادة اللغة "اليديشية" في أوروبا الشرقية. فاللغة هي الدولة. وفي دول الجوار الإسلامية المحيطة بالوطن العربي يعتبرون الحديث بالعربية شرفاً كبيراً. فالعربية لغة الأشراف، ويتبركون بها وبالعروبة لأنها حاملة الإسلام. وإذا كان مخطط التفتيت مستمراً على آخره لتجزئة الوطن العربي بنزعات اللغة والعرق والطائفة فإن الحفاظ على عروبة الأطراف هو إحدى الوسائل للحفاظ على وحدة الوطن العربي. فاللغة هي الفكر والثقافة. والثقافة هي الوطن والهوية والشعب. والبلاغة العربية لها رصيدها في التاريخ، والقرآن لغة ووجدان وثقافة ورؤية للعالم. وقد ساهمت المسيحية العربية في اللغة العربية قدر مساهمة علماء المسلمين. إنما هو دور الجامعة العربية إن تعثر سياسياً واقتصادياً فعلى الأقل ألا يتعثر في المحافظة على عروبة الأطراف. فليست العروبة بأب أو أم. إنما العروبة هي اللسان.