تجمع المعاجم العربية على أن البطولة هي الشجاعة الفائقة التي لا يتصف بها إلا قليل من البشر، ويقدم ابن منظور في "لسان العرب" أسباب هذه التسمية بقوله "سُمي بطلاً لأن الأشداء يبطلون عنه"، أما معجم أكسفورد، فيرى أن البطل و"المحارب العظيم"، هو "القائد الملهم الذي يحدد مسار التاريخ"، أو هو "الشخص الذي اشتهر بين الناس بإنجازاته الكبيرة أو صفاته الحميدة"، حسب ما تذكره الموسوعة الأميركية. فإذا انتقلنا من الحرب إلى الإبداع، يكون البطل هو "الشخصية المحورية في حكاية أو رواية أو ملحمة من أي نوع من الأدب الملحمي، وهو هنا يبدو تعبيراً فنياً واعياً أو غير واعٍ عن أشواق ورغبات تعتمل في نفوسنا بحثاً عن الاكتمال الإنساني، أو محاولة فهم الواقع وسبر أغواره. وللبطولة ركائز، كما يقول الدكتور أحمد محمد الحوفي في كتابه "البطولة والأبطال"، أولها فيض الحيوية، إذ إن البطل يتمتع بقوة بدنية فائقة، بغض النظر عن حجم جسمه، طويل أو قصير، سمين أو نحيل. ولم يعرف التاريخ بطلاً غير موفور الصحة، أو متداعي البناء، بليد المشاعر والإحساس. وثانيها رسوخ العقيدة، بوصفها القوة التي تهيمن على الفكر والمشاعر والعزيمة، وتحمي الفرد عند الملمات، وتمده بطاقة على الصبر، وتملؤه بالاطمئنان وقت القلق، والثقة وقت الاضطراب، وتجعل العظائم تصغر في عينيه، ما دامت باطلاً، والصغائر تكبر في نفسه ما دامت حقاً. والعقيدة هنا لا تقتصر فقط على ما يستمد من الدين وجلاله، بل أيضاً على ما تمنحه المذاهب والرؤى الوضعية، والأيديولوجيات متكاملة الأركان، والعلوم التجريبية. فكل هذه الخلفيات العميقة تمنح صاحبها قدرة على مواجهة الصعاب التي تعترض طريقه، وإصراراً على تحقيق غاياته، لكن كل المعتقدات تصغر وتتضاءل أمام الإيمان بالله سبحانه وتعالى. ولولا إيمان الأبطال في كل مجال من مجالات الحياة بما يدور في عقولهم وتنطوي عليه جوانحهم ما تقدمت الحياة بنا خطوة واحدة. فالسياسي المؤمن بقضية بلاده، والمفكر المؤمن بآرائه، والعالم المؤمن بمخترعاته واكتشافاته، ورجل الدين المؤمن بانتصار الحق في النهاية، هم جميعاً من دفعوا الحياة دفعاً إلى الأمام، ولولاهم لتوقفت أرجل الناس عن المسير، وتجمدت مصائرهم عند المرحلة الأولى. أما الركيزة الثالثة فهي الشجاعة، إذ لا بطولة من دون شجاعة؛ لأنها عدة البطل في الحرب؛ ولأنها في السلم القوة الدافعة إلى الاعتصام بالعقيدة، والصدع بكلمة الحق، والتنديد بمفاسد المجتمع، وهي الباعث للمستكشفين على المجازفة بحياتهم، وعلى هجر أوطانهم، ليردوا الأصقاع المجهولة، والبقاع التي لم تخطُ عليها قدم، فينتفع العالم بخيراتها، ويعرف أحوالها، ويضيف إلى علمه علماً، وهي التي تحفز المخترع على السهر والدرس والبحث، فيجري التجارب في معمله أو في الجو أو في قاع البحر، وهو على ثقة من أن الموت يرصده. والركيزة الرابعة هي مضاء العزيمة، باعتبارها القوة التي وهبها الله سبحانه وتعالى للإنسان، لتسيطر على رغباته، وتضبط حركته، وهي مستمدة من الفطرة الإنسانية، وتأتي التجارب والخطوب لتصقلها وتمتنها، وتجعلها عزيزة لا تقبل الذل، أبية لا ترضى الهوان. والركيزة الخامسة هي الاعتداد بالنفس، الذي يمنح البطل عزة وثقة في نفسه، وهيبة في نفوس الناس، ويحصنه من الوقوع في فخ الغرور القائم على الادعاء والمبالغة والكذب، أو السقوط في أوهام الخيلاء المنطوية على الكبر والاستكبار، أو التردي في الأثرة التي تتأسس على جنوح وتزيد في حب النفس، وحرص على إشباع ملذاتها ومتعها. أما الركيزة السادسة فهي الرحمة، فالبطل ليس وحشاً كاسراً، قاسي القلب، متبلد المشاعر، بل هو إنسان عطوف، طيب القلب، رقيق المعاملة، وهذا لا يتناقض مع شجاعته ومضاء عزمه. ومن يتصور أن البطولة خالية من الرحمة، فهو خاطئ أو مغرض، ومتغافل عن أن الأبطال في تاريخ الإنسانية قد عرفوا الرحمة والعطف والوفاء والضعف أمام المواقف الإنسانية. فالبطولة مرتبطة بالأخلاق ارتباطاً شديداً، فالبطل لا يميل إلا إلى الواجب، ولا يخون الأمانة. وترتقي البطولة كلما تعلقت بالغايات العظيمة، والبطولة التي لا يبغي البطل من ورائها مجداً وصيتاً، أو يسعى إلى الكيد لخصم، أو تحقيق منفعة مادية، هي البطولة السامية، التي لا تموت بموت صاحبها، بل تظل باقية حين تؤثر في أتباع البطل ومريديه، أو ترفعه إلى أن يكون مثلاً أعلى يحتذى به على مر الزمن. والأبطال إما أن يكونوا حقيقيين كالذين نعرفهم في السياسة والحرب والمعرفة والعلم والدين، مثل هؤلاء الذين ذكرهم توماس كارليل في كتابه "الأبطال"، أو أسطوريين تصنعهم قرائح الشعوب وأقلام بعض الكتاب المبدعين، إما اختلاقاً كاملاً، أو بإضفاء صفات خارقة على قادة وشخصيات عادية بعد موتها. وهنا يقول كارليل: "إن من أسباب العزاء أن في ذكرى الأبطال العظماء، كيفما كانت، نفعاً وفائدة. والرجل العظيم لا يزال بعد موته ينبوع نور يتدفق. فليس أحسن من مجاورته شيء.. نور يضيء، وكان يضيء ظلمات الحياة. وليس كسراج أشعل، ولكنما نجم شبته يد الله بين أشباهه من كواكب الأفق... هو ينبوع نور يتدفق بالحكمة ومعاني الرجولة والشرف الكبير". ويولد البطل في السير الشعبية مصحوباً بنبوءة واضحة، ترتبط بوجوده الفعلي، وتحدد له المصير المعد له، والدور الذي سيلعبه في حياته، وهو دور حتمي، ليس بوسعه أن يفر منه، أو يتفاداه. وتضع هذه النبوءة بصمة أساسية في إخراج البطل من حيز الإنسان العادي إلى براح الإنسان الأسطوري، ليدخل دائرة الكون الفسيح، فيتوحد معه، ويرتبط به ارتباطاً وثيقاً. والنبوءة قاسم مشترك في أساطير البطولة كافة، وحياة أصحاب الملاحم والسير الشعبية الكبرى. ومن أشهر النبوءات في هذا الشأن تلك التي أطلقها الإغريق على "أخيل" بطل الإلياذة وكعبه، وكذلك على بيرسيوس وهيراقليس، وتلك الخاصة بأوديب التي حملها معبد "دلفي" إلى والده، و"قورش" ورستم وجرشاسب عند الفرس. وفي الأساطير العربية سبقت النبوءة مجيء أبي زيد الهلالي وحمزة البهلوان وعبدالوهاب ابن الأميرة ذات الهمة وعنترة بن شداد والزير سالم والمهلهل بين ربيعة.. إلخ. ومعظم الشعوب التي كانت لها حضارات عظيمة، نسجت الكثير من الأساطير النمطية التي تمجد فرسانها وملوكها وأمراءها ورجال دينها الكبار ومن بنوا مدنها التاريخية. ومن أشهر تلك الأساطير أسطورة "حورس" في الأدب الفرعوني القديم، و"إنكي" في ملحمة الخليقة البابلية، و"بعل" في آداب الكنعانيين، و"سرجون الأكادي" مؤسس الإمبراطورية الأكادية في بلاد النهرين، و"شمشون" عند العبرانيين. وتوزعت أساطير هؤلاء "الأبطال" على عدة أشكال منها ما يعرف بـ"أسطورة البطل" والملاحم والتراجيديا والحكايات الخرافية والحكايات السحرية والسيَر الشعبية والأسطورة الدينية. وينحت بعض المبدعين أبطالاً من خيالهم الخصب، لكنهم يتركون علامات في تاريخ الإنسانية، وتتردد سيرهم وأفعالهم وكأنهم بشر من لحم ودم، وليسوا مجرد سطور دبجها قلم، وربما لم يتوقع كاتبها لحظة تدبيجها أنها ستعلو في نفوس الناس هذا العلو، وتجري على ألسنتهم هذا الجريان. ويمكن أن نضرب مثلاً هنا بشخصية "دون كيشوت" التي أبدعها الكاتب الإسباني ذائع الصيت سيرفانتس (1546 ـ 1616) بعد أن احتشد خياله بقصص الفروسية التي قرأها من الأدب اليوناني القديم، فهذه الشخصية المختلقة صارت مضرب الأمثال على الفروسية الجامحة، التي جعلت صاحبها يعشق الحرب، فإن لم يجد من يحاربه حارب طواحين الهواء. وحفِل الأدب العالمي بنماذج عديدة على المنوال نفسه مثل "هاملت" لشكسبير و"فاوست" لجوته... وهكذا. وهذه النماذج الخيالية المختلقة تدل دلالة قوية على أن الناس يتوقون دوماً إلى البطولة، فإن لم يجدوها اخترعوها. وسواء أكان البطل حقيقياً، عاش بين الناس ومشى على الأرض وسُمعت أقواله وشوهدت أفعاله، أو كان صناعة كاتب قدير أو إنتاج قريحة شعبية متوقدة، فإن الحياة بحاجة دوماً إلى الأبطال، كي ترتقي وتتقدم وتسير إلى الأمام.