في عام 1995، أقرّ الكونجرس الأميركي قانوناً باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل. ونصّ القانون على نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس في موعد لا يتجاوز نهاية مايو 1999. غير أن القانون منح الرئيس الأميركي صلاحية تأجيل نقل السفارة مدة ستة أشهر قابلة للتجديد بعد إبلاغ الكونجرس بذلك. وهكذا التزمت الإدارات الأميركية في وثائقها الرسمية بأن القدس عاصمة لإسرائيل. أما نقل السفارة، فلا يزال يتأجل ستة أشهر بعد أخرى بقرار من الرئيس الأميركي احتواءً لردود الفعل العربية والإسلامية. والآن، يدرس الكونجرس مشروع قانون جديد ينتزع من الرئيس صلاحية التأجيل، ويعطيه مهلة أخيرة تنتهي في نهاية عام 2012 لنقل السفارة الأميركية إلى القدس. وقد جاء المشروع الجديد في الوقت الذي ترتفع فيه الضجة في العالم ضد الإجراءات التي تفرضها إسرائيل على الأراضي الفلسطينية المحتلة وبصورة خاصة على القدس. وتتمثل هذه الإجراءات في طرد العائلات الفلسطينية من بيوتها، ومصادرة هذه البيوت لإسكان متطرفين يهود فيها. كما تتمثل في توسيع المستوطنات وبناء المزيد منها. وأخطر ما تتمثل فيه إقامة نموذج كبير لهيكل يهودي -يخطط الإسرائيليون لبنائه على أنقاض المسجد الأقصى. والعلاقة بين الإجراءات الإسرائيلية ومشروع القانون الأميركي هي علاقة عضوية تكاملية مباشرة. ذلك أن بناء الهيكل ليس شأناً يهودياً إسرائيلياً فقط، ولكنه شأن يعني الحركة الصهيونية المسيحانية في الولايات المتحدة. وهي حركة تضم -كما تقول- حوالي سبعين مليون شخص منهم أعضاء في الكونجرس والجيش والسلك الدبلوماسي ومؤسسات الأبحاث والدراسات المؤثرة في صناعة القرار السياسي الأميركي. وتعتقد هذه الحركة أن ثلاث إشارات يجب أن تسبق عودة المسيح: الإشارة الأولى: هي قيام صهيون "إسرائيل". وقد قامت إسرائيل في عام 1948. ولذلك اعتبر الصهيونيون المسيحيون في الولايات المتحدة هذا الحدث أعظم حدث في التاريخ الحديث؛ لأنه جاء في اعتقادهم مصدقاً للنبوءة الدينية التي تقول إن صهيون يجب أن تعود حتى يعود المسيح، فالمسيح لا يظهر إلا بين اليهود، ولذلك لا بد من المساعدة على تجميعهم كشرط للعودة الثانية للمسيح. والإشارة الثانية هي تهويد مدينة القدس: ولقد احتلت إسرائيل القدس في عام 1967. ويعتقد الإنجيليون الصهيونيون أنها المدينة التي سيمارس المسيح منها حكم العالم بعد عودته الثانية المنتظرة، ولذلك تضغط الكنائس الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة من أجل الاعتراف بالقدس "عاصمة موحدة وأبدية" لإسرائيل، ولقد تجاوب الكونجرس بمجلسيه، الشيوخ والنواب، مع هذه الضغوط في أبريل 1990. وقرّر نقل السفارة الأميركية إليها. وتنفيذاً لذلك، تمّ إنشاء المبنى الجديد لها على أرض هي في الأساس تابعة للأوقاف الإسلامية! والإشارة الثالثة هي بناء هيكل يهودي على أنقاض المسجد الأقصى: لقد وُضع تصميم الهيكل الجديد، فيما تتواصل الحفريات تحت المسجد بحجة البحث عن آثار يهودية مطمورة. وفي الوقت نفسه، يتم إعداد وتدريب كهان الهيكل في معهد خاص بالقدس. أما الأموال اللازمة، فقد جُمع معظمها وأُودعت في حساب خاص باسم "مشروع بناء الهيكل". وقد أقام الإسرائيليون نموذجاً عن الهيكل في ساحة مطلّة على الحرم القدسي الشريف. وهناك عقائد مشتركة في الإيمان الصهيوني اليهودي والصهيوني المسيحي. ويوظف الصهيونيون المسيحيون -واليهود معاً- نتائج العمليات الحربية التي قامت بها إسرائيل لصياغة تفسيرات دينية من نصوص توراتية. ومن هذه العمليات، تجميع اليهود في فلسطين تحت شعار صهيون، واحتلال الضفة الغربية، بما في ذلك مدينة القدس. إن بناء المستوطنات اليهودية في الضفة وفي القدس خاصة لا يستجيب لحاجة إسكانية بقدر ما يستهدف تهويداً مقصوداً في حدّ ذاته لإعداد أرضية تساعد على استخراج المزيد من التفسيرات الدينية للنصوص التوراتية. فالمستوطنات اليهودية في القدس وحولها هي الحصن اللازم للهيكل الذي يستعد اليهود لبنائه بمساعدة حركة الصهيونية المسيحية. ويقول القس جيري فولويل، الذي توفي منذ فترة غير بعيدة: "لقد أعددنا جميع الخطط لبناء الهيكل. حتى أن مواد البناء أصبحت جاهزة. إنها محفوظة في مكان سري. هناك معامل عديدة يعمل فيها الإسرائيليون لإنتاج التحف الفنية التي سنستعملها في الهيكل الجديد. إن أحد الإسرائيليين ينسج الآن قماشاً من الحرير الخالص لاستعماله في صناعة أثواب الحاخامين في الهيكل". وفي مدرسة دينية تدعى "ياشيف أتيريت كوهانيم" -أي تاج الحاخامين- وتقع بالقرب من "حائط المبكى"، يدرّس الحاخاميون مجموعة من الشباب كيفية تقديم التضحية بالحيوان. وفي كتابه The Last Late Planet Earth، يقول القس هول ليندسي، وهو من كبار منظري الحركة الصهيونية المسيحية: "لم يبقَ سوى حدث واحد ليكتمل المسرح تماماً أمام دور إسرائيل في المشهد العظيم الأخير من مأساتها التاريخية. وهو إعادة بناء الهيكل في موقعه القديم. ولا يوجد سوى مكان واحد يمكن بناء الهيكل عليه استناداً إلى قانون موسى في جبل موريا، حيث شيد الهيكلان السابقان". أي في موقع المسجد الأقصى وقبة الصخرة. ولكن على رغم أن كل عمليات التنقيب عن الآثار التي قامت بها إسرائيل منذ احتلال مدينة القدس في عام 1967 لم تقدم دليلاً واحداً على أن المسجد الأقصى بني على أنقاض الهيكل، فإن الإصرار على تهديم المسجد يشكل أولوية دينية في العقيدة الصهيونية اليهودية منها والمسيحية على حدّ سواء. إن قبة الصخرة التي بناها الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان في عام 685 هدفها حماية الصخرة التي يعتبرها المسلمون موقع معراج النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- إلى السماء. أما الحرم الشريف، فإن مساحته تغطي سدس مدينة القدس القديمة. ومنذ القرن السابع حتى اليوم، ولمدة 13 قرناً وبلا انقطاع -باستثناء 88 سنة من سيطرة الفرنجة "الصليبيين"- حافظ المسلمون على مقدسات القدس الإسلامية والمسيحية. ويتولى المجلس الإسلامي الأعلى وذراعه مؤسسة الأوقاف الإسلامية، إدارة الحرم الشريف، و35 مسجداً آخر، إلى جانب عدة مقابر ومواقع إسلامية داخل المدينة القديمة. ومنذ أن حرّر عمر بن الخطاب الخليفة الإسلامي الثاني المدينة عام 638 ميلادية، بقيت المدينة عربية حتى عام 1099 عندما احتلها الفرنجة (الصليبيون) لمدة قرن من الزمن، عادت بعدها المدينة عربية إلى أن احتلها الإنجليز في عام 1917 بقيادة الجنرال أدموند أللنبي. ويومها ردد أللنبي عبارته الشهيرة: "الآن انتهت الحروب الصليبية". غير أن الاحتلال البريطاني انتهى في عام 1948 بإقامة إسرائيل وبتقسيم المدينة المقدسة إلى شطرين، شطر غربي إسرائيلي، وشطر شرقي عربي. واستمر هذا الوضع حتى عام 1967 عندما شنت إسرائيل الحرب على مصر وسوريا والأردن فاحتلت الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية وذلك في اليوم الثالث من الحرب. وفي عام 1980، أعلن الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي القدس عاصمة موحدة لإسرائيل. وبدأت عملية إبعاد أهاليها العرب المسلمين والمسيحيين وتوطين اليهود مكانهم. وهذه العملية مستمرة حتى اليوم. ولم يبق من القدس التاريخية سوى ميل مربع واحد (أصغر من الفاتيكان) يشكل البقية الباقية من المدينة المقدسة داخل الأسوار. وفي هذا الكيلومتر المربع، يوجد الحرم الشريف وقبّة الصخرة ومسجد عمر وغيرها من المقدسات الإسلامية. وفيه توجد كنيسة المهد والقبر المقدس ومقدسات مسيحية عديدة أخرى. وفيه حائط البراق الذي يسميه اليهود "حائط المبكى". وفي تلة صهيون المطلة على المدينة، يوجد قبر داود، وموقع العشاء السري الأخير، وفي تلة الزيتون يوجد الجثمانية وهو الموقع الذي بعث فيه المسيح حياً وصعد إلى السماء، كما يعتقد بوجود قبر مريم ويوسف والكنيسة التي تقوم عليهما. ومن أجل ذلك، يتمتع هذا الكيلومتر المربع الواحد بتراث ديني غني يشمل الرسالات السماوية الثلاث.. وتريد إسرائيل إزالة هذا التراث وتحويل المدينة إلى مدينة يهودية لدولة يهودية. فماذا ينتظر العرب والمسلمون؟