قبل عشرين عاماً عندما وقف العالم مشدوهاً أمام انهيار جدار برلين، كانت الشيوعية قد لفظت أنفاسها الأخيرة في أوروبا، فيما طقوس الدفن النهائية التي شيعتها إلى مثواها الأخير جاءت بعد ذلك بعامين عندما سقط الاتحاد السوفييتي وأُزيح الستار الحديدي ليسفر عن جمهوريات ودول، ولتدخل روسيا في أزمة اقتصادية مهينة تحولت معها إلى بلد يشبه كثيراً بلدان العالم الثالث، فاضطر مواطنوها إلى الاصطفاف لتلقي حصصهم من المواد الغذائية. لكن قبل الوصول إلى هذه النهاية القاتمة شكل تاريخ الشيوعية طيلة مساره الطويل منذ الثورة البلشفية في روسيا وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي فرصة للقراءة والمراجعة، وهو ما يقوم به المحاضر بجامعة أكسفورد \"ديفيد بريستلاند\" في الكتاب الذي نعرضه هنا وعنوانه \"الراية الحمراء: الشيوعية وصناعة العالم المعاصر\"، والهدف ليس الخروج بعبر ودروس للمستقبل، بل لمعرفة التناقضات الدخلية في أنظمة شمولية تنطلق من مقدمات مثالية لينتهي بها الأمر في مقبرة التاريخ. هذا التاريخ المتناقض للشيوعية الذي يجمع في مفارقة غريبة بين مبادئ مثالية تقوم على تحقيق العدل والمساواة، وبين أساليب العنف الوحشية التي ارتكبت باسم هذه المبادئ. فمع أن الشيوعية مازالت مستمرة، صورياً على الأقل، في الصين، ومازالت متحكمة في مفاصل الدولة ومستفردة بالسلطة والنفوذ، فإن الحزب الشيوعي الحاكم تخلى عن مبادئه المؤسسة، إذ رغم تقاليدها في المساواة والقضاء على التفاوت الطبقي باعتباره أحد القواعد الأساسية للفكر الماركسي، تحولت الصين اليوم إلى ثاني أكبر مجتمع تنعدم فيه المساواة في آسيا بعد النيبال، وأصبح السوق الفاعل الأول والأخير في الصين والمحرك الأساسي لنجاحها. وحتى الدول الأخرى التي يشير إليها الكاتب أثناء استعراضه لأفكار الشيوعية وتاريخها، والتي لاتزال متمسكة بنوع من الماركسية، مثل كوبا وكوريا الشمالية، فإنها سرعان ما أفسحت المجال لقومية ضيقة هدفها حماية نفسها من الدول المجاورة أكثر من أنها إيمان حقيقي بالأيديولوجية الشيوعية، وبدلاً من تسخيرها لتغيير المجتمع وتثويره، كما تدعي ذلك المبادئ الماركسية، اكتفت تلك الدول بتوظيف الأيديولوجية لترسيخ حكم النخبة المغلقة ومحاصرة الانفتاح السياسي. لكن ماذا عن الرأسمالية نفسها والنظام الليبرالي الذي يدعمها؟ ألم يبشر فوكوياما بانتصار الليبرالية وبنهاية الصراع الأيديولوجي لصالح الليبرالية الرأسمالية؟ وماذا عن الأزمة الخانقة التي تمر بها الرأسمالية بعدما ثبتت صعوبة الوثوق بالسوق؟ الحقيقة أن الكاتب يعترف باختلالات الرأسمالية ولا ينكرها، لكنه يؤكد في الوقت نفسه أن لا عودة أبداً للشيوعية بالطريقة التي ظهرت بها خلال القرن العشرين، دون أن يمنع ذلك من تصاعد أصوات تنهل من نفس ذخيرتها الأيديولوجية لكشف الوجه القبيح للرأسمالية. والسبب الذي يدفع الكاتب لاستبعاد عودة الشيوعية إلى الساحة العالمية هو تاريخها المديد الذي يسعى المؤلف إلى كشفه وإماطة اللثام عن بعض جوانبه المظلمة، فحسب الكاتب يرجع فشل الأنظمة الشمولية التي اتخذت من الماركسية ركيزتها الأيديولوجية إلى ذلك التجاذب الداخلي بين المثالية الرومانسية ومعتنقيها وبين البراجماتية التي كان لها أيضاً روادها، هذا التجاذب هو ما يفسر في نظر الكاتب العنف الذي آلت إليه الثورات الشيوعية إلى درجة دفعت بنظام ستالين مثلاً إلى التضحية بمئات الآلاف من عناصر الحزب المخلصة وبأفضل العقول السوفييتية تكريساً لطهرانية متخيلة. وأكثر من ذلك يستند الكاتب إلى التناقض بين الرومانسية والواقعية الذي ميز تاريخ الحكم الشيوعي لتفسير الفشل الاقتصادي للاتحاد السوفييتي والنجاح الصيني الباهر في الدفع بعجلة الاقتصاد. ويرجع بنا الكاتب إلى ماركس، حيث يلاحظ أن ولادته في بلدة ألمانية قريبة من الحدود الفرنسية ساهم بشكل عام، إلى جانب الأجواء السائدة وقتها، في صياغة فكره وتطويره نظريته، إذ معروف أنه في ذلك الوقت كانت أوروبا تتجاذبها نزعتان على الجانب السياسي، واحدة محافظة تمثلها ألمانيا وأخرى ثورية تجسدها ألمانيا، أما على الصعيد الفكري فقد كانت هناك في مقابل عصر الأنوار الفرنسي الرومانسية الألمانية... فجاء ماركس محاولاً الجمع بين النزعتين في فكر واحد لم يكتب له النجاح أثناء التطبيق. ومع أنه يبدو صعباً استخدام عبارة \"الرومانسية\" في وصف الدول الشيوعية، كما أضحت عليه خلال الثمانينيات بالنظر إلى موروثها الموغل في العنف، فإن الكاتب كثيراً ما يستدعيها لفهم الاستقطاب السائد في العالم الشيوعي. وهكذا يعتبر جوزيف ستالين في نظر الكاتب رومانسياً فيما يعد لينين برغماتياً سعى إلى تحديث النظام، وهو التقسيم ذاته الذي ينطبق على \"ماوتسي تونج\" ذي النزعة الرومانسية وبين \"دينج كسابينج\" البرغماتي، وأخيراً يصنف المؤلف \"جورباتشوف\"، آخر زعماء الاتحاد السوفييتي، رومانسيا بامتياز، إذ بدون تلك الرومانسية \"ما كان جورباتشوف ليعتقد أنه قادر على إنقاذ الاتحاد السوفييتي بسياسته الإصلاحية\"، وذلك لإيمانه بأن الفكرة الماركسية هي أسمى من أن تسقط، فجازف بالإصلاحات التي عجلت بنهاية النظام الشيوعي. زهير الكساب الكتاب: الراية الحمراء: الشيوعية وصناعة العالم المعاصر المؤلف: ديفيد بريستلاند الناشر: آلان لين تاريخ النشر: 2009