في محاولتنا السابقة لتشريح ظاهرة الفكر المتطرف، طرحنا سؤالاً مهماً هو ما الذي يؤدي إلى ظهور التيارات الفكرية الدينية المتطرفة؟ وقررنا أن الإجابة عن هذا السؤال تقتضي دراسة أصول تكون الدولة العربية الحديثة والعوامل الخارجية التي أثرت عليها خصوصاً ظاهرة الاستعمار الغربي، واتجاهات النخب السياسية الوطنية التي قادت شعوبها إلى الاستقلال، وأخيراً التركيز على سؤال النهضة العربية الأولى الأساسي، وهو: لماذا التخلف وكيف يمكن أن نتقدم، واختلاف الإسلاميين والليبراليين والاشتراكيين العرب في الرد على هذا السؤال. خططت للإجابة عن كل هذه الأسئلة المعقدة والمتشابكة في سلسلة مقالات، غير أن بعض الأخبار التي نشرتها وسائل الإعلام المختلفة، قطعت عليّ الطريق، واستفزتني، فقررت أن أعلق عليها من زاوية التأصيل التاريخي لمسيرة العقل السياسي الغربي، خصوصاً في تعامله مع شعوب العالم الثالث. الخبر الأول يقرر أن حوالي سبعين عضواً من أعضاء الكونجرس رفعوا عريضة للرئيس أوباما طالبين منه الضغط الشديد على الدول العربية لكي تبادر بالتطبيع مع إسرائيل، من خلال فتح مكاتب تجارية وإقامة ندوات أكاديمية مشتركة بين الأكاديميين الإسرائيليين والعرب، وإقامة اتصالات ثقافية متعددة، ووقف العداء العربي إزاء إسرائيل، والحفاظ على أمن إسرائيل، وعدم الضغط عليها في المسألة الخاصة بتهويد القدس، والاستيطان في الضفة الغربية. وقد سبق هذا الخبر خبر آخر مفاده أن الرئيس أوباما يضغط على نتنياهو ليصدر تعهداً مكتوباً بتجميد الاستيطان لمدة عام مقابل أن تبادر الدول العربية بالتطبيع مع إسرائيل! وخبر أخير لقائد القوات البريطانية في أفغانستان، مؤداه أن بريطانيا تخطط للبقاء في أفغانستان لمدة تتراوح بين ثلاثين أو أربعين عاماً للمساعدة في إعادة بناء هذا القطر التعيس! ثلاثة أخبار كلها تؤكد أن العقل السياسي الغربي في عصر العولمة يمر بأزمة حادة تكشف عن نفعيته وانتهازيته وتناقضه، واستخدام آلية ازدواج المعايير في التعامل مع كل من إسرائيل والعرب والمسلمين بوجه عام. غير أن فهم مسيرة العقل السياسي الغربي، ينبغي أن يبدأ بدراسة تجلياته في مرحلة الاستعمار، ثم في مرحلة ما بعد الاستعمار، وأخيراً في عصر العولمة. كان لا بد للاستعمار الغربي للبلاد العربية والإسلامية وبعض بلاد العالم الثالث عموماً، أن يجد لنفسه غطاءً أخلاقياً لكي يبرر استعماره لهذه البلاد، ويضفي الشرعية على الجرائم التي قام بها ضد السكان الأصليين، بما فيها استخدام القوة المسلحة الباطشة ضد قوات المقاومة وضد السكان المدنيين العزل على السواء لإخضاعهم بالقوة، تمهيداً لنهب ثروات بلادهم، وتحقيق الفائض الرأسمالي الذي سمح للبلاد الأوروبية الاستعمارية بأن تنتقل من التخلف إلى التقدم، مستفيدة في ذلك من الثورة الصناعية وإنجازاتها المتعددة. وقد وجد المفكرون الأوروبيون العنصريون هذا الغطاء الأخلاقي للاستعمار في نظرية شهيرة صاغوها هي "عبء الرجل الأبيض في تمدين الشعوب البربرية"! وهكذا حاول هؤلاء المفكرون التنظير للاستعمار الأوروبي باعتباره يمثل رسالة أخلاقية على عاتق الرجل الأبيض (أي المستعمر) لكي يخرج الشعوب المستعمرة من الظلمات إلى النور! غير أن الحقيقة التاريخية تؤكد أن الاستعمار الأوروبي أدى إلى مظالم تاريخية كبرى وقعت في حق كل الشعوب المحتلة والمستعمرة. ولم تتردد الدول الاستعمارية في ارتكاب جرائم إبادة ضد الشعوب المستعمرة، وجرائم حرب أخرى يعاقب عليها القانون الدولي العام. وفي مطلع الخمسينيات، بدأت الموجة الاستعمارية تنحسر، خصوصاً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 وتأسيس الأمم المتحدة. وقامت نظم حكم وطنية شكلتها النخب السياسية الوطنية العربية. وانسحبت الدول الاستعمارية الأوروبية من مجال الاستعمار المباشر بحكم تغير السياق التاريخي بعد الحرب العالمية الثانية، غير أنها في الواقع انتقلت بعد ذلك إلى مجال الاستعمار غير المباشر! استطاعت الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص، التي حلت محل الدول الأوروبية الاستعمارية التقليدية في العالم العربي والشرق الأوسط بشكل عام في مرحلة ما بعد الاستعمار أن تهيمن على الدول العربية وعديد من الدول الإسلامية، من خلال نشر إيديولوجية "التنمية" التي تعني تعبئة الموارد الاقتصادية وحشد الجهود البشرية من أجل تحويل هذه الدول من التخلف إلى عالم المجتمعات الحديثة. وقد كان قبول هذه الإيديولوجية من قبل بعض القيادات الوطنية الجديدة بعد الاستقلال أشبه ما يكون بفخ وقع بعضها فيه بحسن نية، وبعضها الآخر نتيجة عدم فهم قوانين الاستعمار الرأسمالي في مرحلة ما بعد الاستعمار. ذلك لأن الولايات المتحدة هيمنت على قرارات هيئات دولية كبرى أبرزها البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، حتى ترسم خطط التنمية في الدول الجديدة المستقلة بما يحقق مصالحها الرأسمالية المباشرة. وذلك لأن كلاً من البنك والصندوق الدوليين كانا مصدر تمويل مئات من مشاريع التنمية المطلوبة بشدة في البلاد المستقلة، حتى تثبت القيادات السياسية الوطنية لشعوبها أنها تنجز في مجالات التعليم والصحة والإسكان والتصنيع. غير أن قرارات التمويل كانت تتم ليس وفق حسابات اقتصادية، ولكن في ضوء شروط سياسية مجحفة في بعض الأحيان، حتى لا تخرج مسارات التنمية في هذه البلاد عن الخطة التي حددتها الولايات المتحدة والتي تتمثل أساساً في تحويل هذه الدول إلى سوق واسعة لتسويق منتجاتها، والسماح لها بإقامة بعض المصانع غير الاستراتيجية، ومنعها من تحقيق الاستقلال الاقتصادي الحقيقي، حتى تظل دائماً تابعة للاقتصاد الرأسمالي العالمي. وانتهت مرحلة ما بعد الاستعمار وبدأ عصر العولمة منذ بداية الثمانينيات. واستطاعت الولايات المتحدة من خلال البنك وصندوق النقد الدوليين، أن تفرض على بعض الدول العربية سياسة التكيف الهيكلي، التي بمقتضاها تتم تصفية القطاع العام والتحول الصريح إلى اقتصاد رأسمالي خالص. ومن هنا صممت برامج الخصخصة، وذلك من أجل كف يد الدولة عن التدخل في الاقتصاد، وترك السوق بالكامل للقطاع الخاص. وجاءت من بعد "الليبرالية الجديدة" لتصبح هي المذهب الاقتصادي الذي تفرضه الولايات المتحدة مستفيدة في ذلك من اتساع نطاق العولمة، لكي تحول العالم كله إلى سوق رأسمالي واسع المدى، تتم فيه المعاملات المالية والاقتصادية من خلال تجاوز الحدود والقيود، بفضل الثورة الاتصالية الكبرى. والواقع أن العولمة الاقتصادية الرأسمالية لم تحقق وعودها بالنسبة لدول العالم الثالث عموماً، وللدول العربية خصوصاً، بحكم الفجوات الطبقية الكبرى التي نشأت بين قلة من الأغنياء وكثرة من الفقراء، الذين باتوا يعانون نقص برامج الرعاية الاجتماعية والتضخم وارتفاع الأسعار وتدني الأجور. وكان يمكن لزعماء العولمة الاقتصادية الرأسمالية أن يواصلوا عملية الخداع الكبرى في إقناع شعوب العالم بأن الرأسمالية حتى لو توحشت هي مفتاح التنمية والتقدم، إلا أن وقوع الأزمة المالية الكبرى في أميركا وتداعياتها في كل بلاد العالم، كان الدليل الأكيد على انكشاف هذه الأسطورة! وأخطر من ذلك، زوال الأقنعة عن ممثلي العقل السياسي الغربي في عصر العولمة. فقد تبين أن مشروعهم لفرض الديمقراطية على العالم العربي، ولو بالقوة كما حدث في العراق، ليس سوى جريمة صريحة ترتكب ضد الشعوب العربية. كما أن ادعاءاتهم بأنهم المدافعون عن حقوق الإنسان، ومن حقهم عقاب الدول العربية التي تخرق هذه الحقوق، ليست سوى كذبة كبرى؛ لأنه ثبت أنهم هم الذين يخرقون حقوق الإنسان سواء في سجن أبو غريب في العراق، أو في معتقل جوانتانامو. ويصل العقل السياسي الغربي إلى ذروة نفعيته وانتهازيته وخداعه في مجال علاقة الولايات المتحدة مع إسرائيل، ودفاع إدارة الرئيس أوباما المستميت لتمرير الخطط الإسرائيلية، التي تتلخص في التطبيع المفروض فرضاً على الدول العربية في مقابل هزلي هو تعهد مكتوب يسجله رئيس وزراء إسرائيل على نفسه بتجميد الاستيطان لمدة عام! وهو تعهد يستطيع أن يمزقه في أي وقت، كما أنه يعني -من بين ما يعنيه- أنه بعد عام يمكنه أن يواصل الاستيطان مرة أخرى، بعد أن يكون "الفأس قد وقع في الرأس" بمعنى بعد أن تكون الدول العربية قد وقعت في مستنقع التطبيع المجاني تحقيقاً لمصالح الدولة الإسرائيلية العنصرية! وهذه بعض تجليات العقل السياسي الغربي في عصر العولمة، والتي تبرز تدهوره، واتساع الفجوة بين مثالياته المعلنة في الحرية والإخاء والمساواة وواقعه الذي يعتمد على آليات الكذب والخداع وازدواجية المعايير التي يقوم عليها.