حراك جيلي بلا رؤية سياسية واضحة. هذه هي خلاصة المؤتمر العام السادس لحركة "فتح". كانت الانتخابات الداخلية هي أبرز ما فيه، ودخول 14 عضواً جديداً إلى اللجنة المركزية هو أهم ما أسفر عنه. لكن هذا التجديد يظل بلا مغزى سياسي عميق؛ لأن الانتخابات لم تقترن بتنافس حول مستقبل "فتح" وقضية فلسطين، ولا هي أُجريت على أساس برامج أو حتى تبلور واضح للمواقف. ولذلك، فقد انفض المؤتمر بدون أن يقدم إجابة عن السؤال المحوري، وربما الوجودي، الذي يواجه الحركة اليوم وفي الغد القريب. فالسؤال عن هوية "فتح" وخطها السياسي والاتجاه الذي ستمضي فيه تكتسب الآن أهمية لا سابق لها في تاريخها. فهي مهمة لمستقبلها، وربما أكثر أهمية بالنسبة إلى مصير العمل الوطني الفلسطيني برمته. ولا يعني ذلك اختزال هذا العمل في "فتح". لكن واقع الحال أن هذه الحركة مازالت هي الأكثر قدرة على حمل المشروع الوطني الفلسطيني، رغم الاختلالات التي أضعفتها والمساحات الكبيرة التي انتزعتها منها حركة "حماس" خلال العقدين الأخيرين اللذين تراجعت فيهما. فليس بإمكان "حماس"، رغم ذلك، أن تحمل المشروع الفلسطيني بطابعه الوطني التحرري بسبب خيارها الأيديولوجي وارتباطها التنظيمي الذي يجعلها جزءاً من حركة إسلامية ذات طابع أممي بشكل أو آخر. ولذلك، كان قرار عقد المؤتمر العام السادس لحركة "فتح" بعد طول انتظار قد جدد الأمل في إمكان ترشيد العمل الوطني الفلسطيني خلال المرحلة المقبلة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من قضية فلسطين. والخطوة الأولى في هذا الاتجاه هي تحديد هوية "فتح" بوضوح وإزالة الالتباس المتعلق بها. فكان أكثر ما انتظره المعنيون بمستقبل قضية فلسطين هو أن تعيد حركة "فتح" تعريف نفسها بصورة واضحة. ولكن عندما قال الرئيس محمود عباس في خطابه الافتتاحي إن "الناس ينتظرون من (فتح) أن تقول كلمتها"، لم يكن هذا ما فكر فيه أو قصده، فكل ما عناه هو أن تؤكد "فتح" للعالم أنها هنا. وهذا مهم بطبيعة الحال. لكن الأكثر أهمية هو أن يعرف العالم ماهية "فتح" هذه التي تريد تأكيد وجودها، بعد أن اشتد الاختلاط بين دورها التاريخي باعتبارها حركة تحرر وطني و"تنظيم ثوري" وفق قانونها الأساسي، ووظيفتها الفعلية التي اكتسبتها منذ تأسيس السلطة الوطنية في عام 1994 وجعلتها أقرب ما تكون إلى حزب حاكم. وهذه معضلة في حد ذاتها تحتاج إلى حل. لكن المعضلة الأكبر هي أن ذلك الاختلاط بين دور تاريخي ووظيفة راهنة أضعف حركة "فتح" دون أن يقَوي السلطة الوطنية. وكان المؤتمر فرصة لكي تنفض "فتح" عن نفسها أوزار الاختلاط بالسلطة، وأن تضع خطاً فاصلاً بين حركة التحرر التي تشتد حاجة فلسطين إليها، والوظيفة الحزبية التي تحتاج إليها هذه السلطة لتوفير الشرعية اللازمة لها ومساندتها. لكن يصعب تحقيق ذلك بدون نقاش جاد لم يحدث في المؤتمر، الذي انشغل بانتخاب اللجنة المركزية والمجلس الثوري، فبدا أقرب إلى لقاء أو منتدى مفتوح يقول فيه كل عضو ما يريد بشكل عشوائي. ومن ثم انفض المؤتمر دون أن يجيب عن السؤال المحوري عن هوية الحركة في المرحلة القادمة، وبغير وضع حد فاصل بين دورها التاريخي ووظيفتها الراهنة. ولا مغزى، بالتالي، أو أهمية لما ورد في البرنامج السياسي الذي صدّق عليه المؤتمر دون نقاش جاد أيضاً. فقد حرص معدو البرنامج على تأكيد أن "فتح" ستظل حركة تحرر. فليس هذا سوى خطاب إنشائي لغرض الاستهلاك الداخلي في المؤتمر وإدارة الصراع ضد "حماس" في الساحة الفلسطينية. والحال أن معضلة تحديد هوية حركة "فتح" وإزالة الالتباس الراهن بشأن اتجاهها، لا يمكن حلها عبر خطاب سياسي نظري من أي نوع. فالسبيل إلى معالجتها هو فعل سياسي محدد لم يكن المؤتمر العام السادس مؤهلاً لاتخاذ قرار بالشروع فيه. فعندما تكون المعضلة بالنسبة إلى كيان ما هي اختلاط الوظائف، يصبح حلها رهناً بإيجاد كيان جديد يؤدي الدور أو الأدوار التي تسببت في حدوث ذلك الاختلاط. وينطبق ذلك على حركة "فتح" التي قد لا يكون ثمة سبيل إلى حل معضلتها الصعبة بأقل مقدار ممكن من الخسائر إلا عبر تشكيل حزب سياسي قد يكون امتداداً لها من حيث مبادئها العامة، لكنه يقوم على وثيقة مختلفة بالضرورة عن برنامجها السياسي. والمؤتمر العام هو المؤهل لاتخاذ مثل هذا القرار واختيار لجنة لمتابعته تتولى تكليف بعض أعضاء الحركة بتأسيس الحزب الجديد وفتح الباب للانضمام إليه على أساس عدم الجمع بين البقاء فيها والالتحاق بعضويته التي ينبغي أن تكون مفتوحة لكل فلسطيني. وبهذا المنهج وحده، يمكن للحركة أن تستعيد طابعها وهويتها وتنصرف إلى استعادة دورها التاريخي دون أن تترك السلطة بلا غطاء سياسي، وبغير أن تتحمل هي أوزار توفير هذا الغطاء في الوقت نفسه. فمن ناحية، يصعب أن تستعيد "فتح" هويتها وتؤكد أنها مازالت حركة تحرر وطني إذا استمر ارتباطها الوثيق بالسلطة الوطنية وتداخلها معها. ومن ناحية ثانية، لا يمكن لهذه الحركة أن تصبح مجرد حزب سياسي، بخلاف ما دعا إليه من طالبوا الرئيس عباس بأن يعلن نهاية "فتح" القديمة ويطلق حزباً جديداً قادراً على مواجهة أعباء المرحلة المقبلة. فلا معنى للتحول إلى حزب سياسي في منطقة خاضعة للاحتلال حتى إذا كان في تاريخ حركات التحرر الوطني تجارب تحول فيها بعض هذه الحركات إلى أحزاب مثل التجربة المصرية في النضال ضد الاستعمار البريطاني. فقد نشأ "الوفد المصري" عقب الحرب العالمية الأولى لقيادة هذا النضال، لكنه سرعان ما تحول إلى حزب سياسي بعد انتزاع دستور العام 1923. غير أن الفرق بين الحالة المصرية حينئذ والحالة الفلسطينية الآن هو أكبر من أن يسمح بأن تعيد "فتح" إنتاج تجربة "الوفد" لأسباب عدة أهمها اثنان: أولهما اختلاف نوع الاستعمار الذي كان تقليدياً في حالة مصر فيما هو استيطاني إحلالي في الحالة الفلسطينية. أما السبب الثاني، فهو أن "الوفد" لم يكن تنظيماً ثورياً، رغم أنه قاد ثورة 1919. فهو لم يسع إلى هذه الثورة ولا خطط لها، بل فوجئت قيادته بها وقد اندلعت رداً على اعتقال الإنجليز زعيمه سعد زغلول ونفيه إلى الخارج. كما أنه لم يشَّكل جناحاً مسلحاً تابعاً له بخلاف "فتح" التي لم تُعرف على نطاق واسع إلا بعد سنوات على تأسيسها حين قام تنظيمها العسكري "قوات العاصفة" بأول عملية فدائية في مطلع عام 1965. كان "الوفد" حركة تحرر ذات طابع مدني انتهجت أساليب مقاومة سلمية. وكان لجوء بعض أعضائه إلى عمليات مسلحة استثناء من هذه القاعدة. لذلك بدا تحوله السريع إلى حزب سياسي بمثابة تطور طبيعي في دوره. أما "فتح"، فاعتمدت الكفاح المسلح أسلوباً رئيسياً للمقاومة. ومازال هذا الأسلوب يمثل جزءاً من هويتها كحركة تحرر وطني، رغم تعطيله في السنوات الأخيرة. لكن الفرق كبير بين عدم ممارسة شكل من أشكال المقاومة نتيجة ظروف معينة وإسقاطه أو التخلي عنه بشكل نهائي. والدليل على ذلك، أن "فتح" أوقفت الكفاح المسلح بعد اتفاق أوسلو وتأسيس السلطة الوطنية في عام 1994، ثم استأنفته عقب فشل مفاوضات "كامب ديفيد 2" واندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، لكنها عادت إلى وقفه مجدداً بعد إخفاق الانتفاضة. وهناك حالياً اشتباك داخل الحركة بين موقفين من المقاومة، ومن ثم فإن فض الاشتباك بين هذين الموقفين -اللذين لم يحدث نقاش جدي بينهما- هو الوجه الآخر لإزالة الالتباس بين وظيفة الحركة التحررية والدور الحزبي. وقد لا يمكن تحقيق ذلك إلا عبر تأسيس حزب للسلطة الفلسطينية يمثل امتداداً لحركة "فتح"، لكنه يتمايز عنها بوضوح. ولعل هذا هو السبيل الوحيد لإنقاذ الحركة من أزمة سياسية -فكرية عميقة تمنعها من تحديد هويتها وتهددها بالمزيد من التراجع، رغم تجديد لجنتها المركزية، على نحو يضع قضية فلسطين نفسها في مهب الريح.