ما من سر يخفى إلى الأبد، وليس من سر لن يذاع، ولا مشروع سري إلا وتكشف تفاصيله ولو بعد حين... والمرأة التي تحمل ستضع حملها ولو بعد حين. كذلك كان مصير المشاريع السرية. نوراد وترينتي ومانهاتن في أميركا، وتجارب صحراء بالاتنسك في كازاخستان وجو في روسيا، ومشاف في عمق جبال سويسرا، وسجن الكاترز في أميركا، وتزمامارت في المغرب، وتدمر في سوريا، وقصر النهاية في العراق، وليمان طره في مصر، وشوتا ديف في فرنسا، وجزيرة روبن في جنوب أفريقيا، وجزيرة الشيطان في غوايانا الفرنسية... وما كشف عنه مؤخراً من وجود مدينة كاملة تحت بكين، على مساحة تتسع لـ300 ألف نسمة، بناها الزعيم ماوتسي تونج بين عامي 1960 و1979، بأيدي 70 ألف عامل حفروا بأظافرهم وأيديهم استعداداً ليوم الهول الأعظم، فيما لو ضربت الصين بسلاح نووي، فيهرع القوم إلى سفينة نوح تحت الأرض، تأوي النخبة الحاكمة وكوادر الحزب المنتقاة بعناية وعائلاتهم، في هذا السرداب ليتابعوا حياتهم، ويقودون الصين من تحت الأرض لحين زوال الشعاع النووي وأثره من فوق رؤوسهم! كان هذا يوم حدة الأوضاع في الحرب الباردة واستعداد كل أمة للهول النووي، قبل استيعاب الجميع أن وقت القوة ولى، وأن مؤسسة الحرب ماتت، وأن ولوج طريق الحرب معناه تفجر العالم، حيث لا يبقى أخضر ولا أحمر ولا أزرق... بعد أن لا يبقى مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم. بنى ماوتسي تونج هذه المدينة حينما انتابته قشعريرة الموت من هجوم سوفييتي مباغت، وهو أمر عجيب بين دولتين تدينان بنفس المذهب والحزب والعقيدة الأيديولوجية الماركسية، لكن لا غرابة، ففي العالم العربي حدث مثل هذا وأشد، وكانت جوازات السفر يوماً في بلد عربي تمهر بأن دول العالم كلها مباحة عدا دولة الجوار العربية. وهي ليس مأساة حزب \"البعث\" بتوأميه المتباغضين، بل مصير دول عربية كثيرة. وهذا يفتح عيوننا على مأساة العالم العربي، وعلى حقيقة أن مشكلته الجوهرية ليست إسرائيل؛ فهو لم يضع على جواز السفر \"ممنوع دخول إسرائيل\"، بل وضع البلد العربي الشقيق! وفي زيارتي الأخيرة للمغرب، رأيت الحدود بينه والجزائر مغلقة، فلا يعبرها إنس ولا جان ولا طير ولا نمل، فعرفت أن عمق الخلاف بيننا هو مصيبتنا الكبرى، وهو داؤنا الأعظم، حتى تتبدل الأرض والبلاد والناس والتاريخ والنفوس والمناخات، وهذا ما حصل بين الصين وروسيا، البلدان الشيوعيان المتجاوران. بنى ماوتسي تونج مدينته المقلوبة تحت بكين بعمق 18 متراً، محصنة ومعدة لهجوم نووي، فيها محطات توليد كهرباء، وسواتر من الغبار النووي، ومراكز عمل، ومشاف، ومسارح، ودور سينما، ومراكز تسلح، ومطاعم... بكلمة مختصرة: حياة كاملة لمدينة متوسطة الحجم. وحالياً تغيرت الأمور كلية، ويمكن الدخول لقسم منها عن طريق شارع \"كسي دامو شانج\" في الحي الشعبي \"هوتون\". ويمكن في الحالات الطارئة أن تستوعب ثمانين ألفاً من العمال المتجولين الذين يبحثون عن أماكن رخيصة للنوم. وبالطبع، ففي المدينة المخفية في الظلمات، هناك قسم ينام فيه الفقراء، أما الأقسام الحيوية ففي متاهة تحت الأرض وفق خرائط محصية ومرسومة وزوايا سرية وأسلحة خطيرة... لذلك لا يعلمها إلا عتاة رجال الحكم ودهاة رجال الاستخبارات الصينية. ويقال إن الشيء نفسه موجود تحت موسكو. والأمر كما نرى ليس بالهزل بل هو الجد وكل الجد. وسويسرا بلد محايد، لكنها بنت مشافي ليوم الزلزلة النووية، أما مشروع \"نوراد\" الأميركي فيحتاج لقصة مستقلة؛ لأنه بني كعش في جبل شيان في كلورادو يمسح قيعان البحار وطيور السماء، فلا يغيب عنه كثير مما يحدث في الأرض، بمسح ضوئي متواصل على مدار الساعة. إنهم القيمون على عالم اليوم، أما نحن فكما وصفتنا مجلة \"الإيكونوموست\"؛ يمر علينا التاريخ صامتا، فمتى يبدأ العالم العربي يتململ ويتمطى من النوم؟