بعد أربعة أَهلةٍ ستحلُّ الانتخابات البرلمانية الثالثة، ومن الاثنتين السابقتين ولد عراق تتلاطم به الأمواج الطائفية شمالاً وجنوباً، ضاع على طبه العدلي عدَّ القتلى، وعلى سفاراته إحصاء المهاجرين، وليس لجهة تقدير حجم الفساد بثروته لعظمته، وقد أضحى، عبر التلفيق الفقهي، المال والنفط والدم \"مجهول المالك\". بلاد اختلط فيها القاتل والمقتول، وكثر الاختلاف على درجات قتلاها: هذا شهيد وذاك قتيل! \"وما أعيا العبارة كشفه\" من حادثات خرافيات. ليس صحيحاً أن الائتلافات والتوافقات والاتحادات الطائفية والقومية هي قدر العراق؛ وأنه قائم على ثلاثي: شيعي وسُنَّي وكُردي، بل هو قائم على أرض واحدة مختلفة التضاريس الاجتماعية، على مختلف ألوانها، تتمايز بمصالح مدنية ورؤى سياسية، لا تتحدد بشيعية هذا المكان، أو كُردية وسُنَّية ذاك، هذا إذا أُريد لها أن تغدو دولة مدنية تسير صوب الرقي. أما الإصرار على جاهلية التكتل الطائفي والقومي فنراه تفكيكاً للعراق، وإفراغه من أهل العقول والطاقات، فمَنْ امتلك وسيلة الهجرة لا يطمع بالبقاء تحت رايات ملوك طوائف. فقبل ظهور المراهنات على الطائفة والقومية، وجعلها جوهراً في سياسة المرحلة، من أجل تثبيتها كتقليد يحل محل الانتماء للوطن، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن القدرات العلمية والإدارية والسياسية لا تُحصر في هذه الطائفة أو تلك، وعندما نقول الطائفة تدخل فيها القومية ضمناً، فلماذا تحصر المناصب والوزارات الأساسية بيد عدد محدود من طائفة بعينها، على أساس أن ذلك من حصتها، ولا ينتهي الأمر بدائرة الطائفة، فهناك دوائر داخل الائتلاف الشيعي، أو التوافق السُنَّي أو الاتحاد الكُردي. بمعنى أن خبراء وعلماء ومختصين من الطائفة نفسها، لكنهم من خارج أحزابها السياسية، لا تنتفع بهم البلاد. إن الطائفيين وحدهم يرون العراق كياناً مصطنعاً، لا بد من تفكيكه ثم إعادة تركيبه على أساس الطوائف. وهؤلاء إما قاصدون إلغاء البلاد من الوجود، وهي حسب سياستهم تسير إلى هذا الاتجاه، أو جاهلون بقراءة الجغرافيا والتاريخ، أجد هذا التطاول لا يعني حقوقاً قومية أو فئة دينية، إنما يعمل لإثبات وجودهم شخصيات أو عائلات، ووصلت الحال بالعراق، تحت سحائب الطائفية السُّود، أن يتجاسر البعض ويشكك بوجود بلاد بهذا الاسم، وهذا الكيان الجغرافي. لقد تجاسروا، وبكل عنت، على إلغاء اسم العراق نفسه، وأنه مجرد بلد ملفق، ولا ندري على أي أرض شيدت دول طوائفهم العتيدة! حتى وصلت الحال بنا إلى البرهنة على وجود الشمس! وكأن أعشى قيس (ت 629 ميلادية) قصد بلاداً أخرى: \"طعام العراق المستفيض الذي ترى... وفي كلِّ عامٍ حُلةٍ ودراهم\"! أو ما قاله المتلمس (ت 580 ميلادية): \"إن العراق وأهله كانوا الهوى... فإذا نأى بيَّ ودَّهم فليبعد\". وابن أبي الصلت (نحو 626 ميلادية)، وهو يفخر بامتياز الكتابة لقومه: \"قومٌ لهم ساحة العراق إذا... ساروا جميعاً والقطُّ والقلمُ\" (شيخو، النصرانية وآدابها). أو بما قاله ابن أبي سُلمى (نحو 631 ميلادية): \"فتغلل لك ما لا تغل لأهلها... قرىً بالعراق من قفيز ودرهم\" (الزوزني، شرح المعلقات). هذا من ناحية اسم البلاد العتيق، أما تنظيمها الإداري، فنترك الغابر من الزمن، ونأتي بما نظمه مدحت باشا (قتل 1883) من سناجق (محافظات) قبل مجيء الإنجليز بنصف قرن، وتلفيقهم بلاداً اسمها العراق، حسب غواية الغاوين: بغداد، شهرزور (كركوك وتتبعها أربيل) السليمانية، الموصل، الدليم، كربلاء، الديوانية، البصرة، العمارة، المنتفك (جريدة \"الزوراء\"، العدد الثاني، ربيع الأول 1869). فبأي حقيقة تكذبون وتأخذكم الظنون بعيداً إلى دولة شيعية، وأخرى سُنَّية، وثالثة كردية! مثلما تقاسم العراق ائتلافكم وتوافقكم واتحادكم، ولكل رايته! قد لا يعنيكم التاريخ، ولا يعنيكم العراق بأبيضه وأسوده، لكن أنصفوا قليلاً، وأنظروا في ما جلبته المحاصصة من مآسٍ حقيقية، لسبب بسيط هو لا قانون دولة يطبق، ولا فاسد يحاسب، ولا كفؤ يتحمل مسؤولية تحت رايات الطوائف، وتبقى الحكومة حائرة بمعالجة سرقة مصرف؛ لأن الساطين والقاتلين من تكتل لا يسمح لنوابه في البرلمان، ومسؤوليه في الدوائر، تطبيق القانون بحراسه! حتى انقلبت وزارة المالية ضد وزارة الداخلية، مع أنهما من حكومة واحدة وطائفة واحدة! لكل هذا، لا بد أن يفي رئيس الوزراء بتحقيق عنوان قائمته في انتخابات المحافظات \"دولة القانون\"، ومن أول الالتزامات ألا يأتلف طائفياً، ولا أظن أن كتلة ما، بعد ما حصل، قادرة على تمويه الطائفية بشعار الوطنية، والخروج من المسار الذي رسمه بول برايمر، يوم كان مجلس الحكم لجنة استشارية، بلا مشاورة، نسوا العراق، وأخذ المستشارون يستجدون رخص المزايا: رواتب وحمايات! لقد قبلوا لذواتهم العزلة الاختيارية بالمنطقة الخضراء، وكم وزير لا زال يدير وزارته من ذلك المكان. تخالطت أزياء الاستشاريين لتوهم المواطن بعمائم وعِقل وبذلات، وللجواهري هازئاً: \"وتلك اللفائف كالأقحوان... بها العلمَ ينفح طيب الشذى... وتلك الشراشيف كالياسمين... تاه العِقال بها وازدهى... تدلت عناقيد مثل الكروم... على كتفيَّ يابس كالصوى... يودُّ من التيهي لو أنه... يشدُّ بها جرساً إن مشى... لعلم سامعيه أنه ينوب... عن بلد مبتلى\" (من المقصورة). ومع ذلك، لا تخلو البلاد من نوايا لدمل الجرح العراقي النازف، مَنْ لا يوهمون بذاتية مفرطة والمالكي أحدهم، لكنهم قد يخطئون الأدوات، ويرون الحل عبر التمترس الطائفي، بشقيه المذهبي والقومي. وهنا لا بد من التمييز بين ذات وأخرى، مَنْ أخطأ الحق وظن الخيار الطائفي حلاً، وهذا لا بد أن يراجع ما جلبه ظنه على البلاد من شقاء، وبين مَنْ يعرف حجم الضرر ويصر عليه. ولا يفوتنا التذكير بمقالة مَنْ أجمع أهل العراق كافة على منزلته: \"لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس مَنْ طلب الحقَّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه\" (نهج البلاغة). ومنى النفس أن يكون كل المتحاصصين من الفئة الأولى، ولا يغضبون من التشبيه، فمقالة الإمام غدت مثلاً، والأمثال تضرب ولا تقاس. هذا، ولو أحصينا كلامهم في المواطنة لامتلأت الركائب منها، لكنه كلام. فهاهم أخذوا يأتلفون ويتوافقون ويتحدون، هذا يدعي بضمان حقوق الشيعة، وذاك يقلقه وضع السُنّة، وثالث يخشى من مركز رئيس جمهوريته، ووزير خارجيته، وتخطيطه، ومائه، ونوابه وزرائه من الكُرد، من غير كتلة نيابية لا يخرج قرار من دون إذنها! وكم رخص لديه كفاح مواطنيه، من غير الكُرد، عبر عهود طويلة من أجل حقه وبلا مواربة. أقول: يا مالكي من أجل العراق لا تأتلف، وإن خسرت المنصب، فستربح نزاهتك! لا تأتلف وإن حشدوا عليك المغريات! لا تأتلف فسيحفظ لك التاريخ هذا الموقف.