لقد رأينا خلال الأسابيع القليلة الماضية وجهين للحكومة الأميركية، يثير أولهما الإعجاب بينما يثير الآخر شعوراً بالقلق العميق. ولنبدأ الآن بالأنباء السارة والوجه الإيجابي، فقد تزايدت الأدلة على فعالية استجابة واشنطن للانهيار المالي العالمي الذي حدث مؤخراً. ففي خريف العام الماضي شلت الأسواق المالية وتجمدت الائتمانات، وانحدر الاقتصاد القومي عميقاً. وحينها كانت كافة مقاييس الأداء الاقتصادي تشير إلى انحداره نحو أعمق أزمة شهدها منذ الكساد العظيم -الذي ضرب الاقتصاد العالمي كله في عقد الثلاثينيات من القرن الماضي. والمؤسف أن الأزمة الأخيرة التي لا نزال نشهد تداعياتها حتى الآن، قد صادفت أسوأ توقيت. فقد كانت في البيت الأبيض إدارة وصفت حينها بالـ"بطة عرجاء" في مواجهة معارضة قوية من قبل كلا مجلسي الكونجرس. وبحكم ذلك التركيب غير المواتي، فقد كانت الحال وصفة للشلل السياسي والمكائد واللافعل في نظر كثيرين. أما في ظل الإدارة الحالية الجديدة، فالملاحظ سرعة وفعالية التعاون بين البيت الأبيض والكونجرس. فخلال أسبوعين فحسب، شرّع الكونجرس قانوناً سمح للإدارة باعتماد ميزانية تبلغ قيمتها 700 مليار دولار لإنقاذ النظام المالي. وكانت إدارة بوش السابقة -للأمانة- قد تعاونت خلال فترة مغادرتها لمهامها الرئاسية مع فريق إدارة أوباما الجديدة. وعليه، فقد واصلت إدارة أوباما العمل في إطار خطة الإنقاذ الاقتصادي التي ورثتها عن عهد بوش، وذلك بإجراء تعديلات وإضافات على بعض تفاصيلها لا أكثر. كما تعاون الفريقان بمستوى جيد مع البنك الاحتياطي الفيدرالي الذي يعتبر رأس الحربة في هذه الجهود بفضل ابتكاراته وفعالية تحركه لاحتواء الأزمة. وبفضل إلحاح خطة الإنقاذ الاقتصادي التي تبنتها إدارة بوش السابقة، فقد حُظيت بتأييد بعض كبار القادة "الديمقراطيين" من أمثال بارني فرانك. ومن ناحيته، تجاوز بوش عماه الأيديولوجي وقرر حينها الخوض في مياه التدخل الاقتصادي. ومثلما هي حال كل سياسة أو استراتيجية ناجحة، فإنه من السهل الآن للبعض توجيه الانتقادات لهذه السياسات سواء باتهامها بالفشل أو وصفها بتجاوز ما كان ينبغي فعله إزاء الأزمة. وفي ظل إدارة بوش، كانت الانتقادات الرئيسية الموجهة لخطة الإنقاذ الاقتصادي قد تمحورت حول ضعفها، متبوعة بالمطالبة بتأميم البنوك الخاصة. كما شملت الانتقادات القول بضآلة الميزانية المرصودة لخطة الإنقاذ نفسها. وفي أجواء حالات الطوارئ هذه، عادة ما يسهل على المرء أن يعيد النظر فيما حدث، والقول إن في الإمكان أن تكون تلك الاستراتيجيات والسياسات التي تم تبنيها من قبل الإدارة السابقة أكثر ابتكاراً وفعالية. بل قد يسهل الاعتقاد أيضاً بأن في وسع الإجراءات التي جرى تبنيها لاحتواء الأزمة، أن تؤدي إلى مشكلات وتعقيدات اقتصادية جديدة. بيد أن خطر انزلاق اقتصادنا القومي إلى هوة كساد عظيم أخرى، دفع كلاً من الكونجرس والإدارة والبنك الاحتياطي الفيدرالي، إلى العمل معاً بما يحقق الاستقرار المطلوب للنظام المالي والاقتصادي. وقد فعلت هذه الأطراف الثلاثة ما يجب القيام به عند الأزمات. وهنا ينبغي القول بوجود سمة خاصة بأميركا دون غيرها، هي قدرة النظام والشعب والحكومة على التصدي بسرعة مذهلة للأزمات. خذ لذلك مثالاً هجمات بيرل هاربر أو حتى هجمات 11 سبتمبر. فمهما كان رأي المرء في استراتيجيات بوش الأخيرة، فإن ذلك لا يمنعه من الاعتراف بوحدة إرادة كلا الحزبين خلال الأسابيع التي تلت هجمات 11 سبتمبر، وتعاونهما على بلورة سياسات حظيت بدعم دولي وتمكنت من جعل مكافحة الإرهاب أولوية قصوى من أولويات الإدارة. وقد شملت تلك السياسات تحسين مستوى الأداء الأمني في خطوط الطيران والمطارات، وتعقب الإرهابيين وتحركات أموالهم، إضافة إلى خوض الحرب ضد تنظيم "القاعدة". وقد ساعدت هذه التكتيكات على تحويل مقاتلي "القاعدة" وقادتهم إلى فلول هاربة، لا تزال عاجزة حتى اليوم عن التخطيط لهجمات جديدة كبيرة. والآن ننتقل إلى وجه أميركا السلبي المثير للقلق، فلكي نكتشف الضعف في نظامها، ما علينا إلا أن نلقي نظرة إلى التناحر السياسي الذي طغى خلال الأسبوعين الماضيين حول إصلاح نظام الرعاية الصحية. والحقيقة أن هذا النظام يعاني اضطراباً لا شك فيه. وفيما لو استمر هذا الاتجاه -مع ملاحظة عدم وجود أي مؤشرات على تغيير مساره حتى الآن- فإن المؤكد أن تلتهم الرعاية الصحية نسبة 40 في المئة الدخل القومي بحلول عام 2050. والمعضلة أن هذا التراجع يتسم بالتدريجية والبطء، بحيث قد لا تنجم عنه أية أزمة في المستقبل القريب المنظور. ولهذا السبب نبدو عاجزين عن التصدي له في الوقت الحالي. وبسبب الارتفاع المطرد لتكلفة الرعاية الصحية، فإن ما يزيد على 10 آلاف أميركي يفقدون ضمانهم الصحي يومياً. كما يلاحظ أن أداء أميركا في مجال الرعاية الصحية يعد الأسوأ قياساً إلى أي من الدول الأوروبية المتقدمة، التي تنفق حوالي 50 في المئة من دخلها القومي على الرعاية الصحية، مع العلم أن نسبة أعداد المسنين في الكثير من تلك الدول تتزايد باطراد. وفي مواجهة هذه المعضلة، لا يبدو الحوار القومي الدائر اليوم عن إصلاح الرعاية الصحية واقعياً. وها نحن نسمع المحافظين وهم يواصلون اتهامهم اليومي للرئيس أوباما بأنه شرع في تعيين مجالس "القتلة" و"الموت المحدق" بالمواطنين، وبأنه يعمل على تحويل بلادنا إلى روسيا أخرى. وعندما ينظر المرء إلى حزمة الأزمات التي يواجهها نظامنا الصحي ونظام الضمان الاجتماعي وارتفاع مديونية الخزانة الفيدرالية والعجز الحكومي.. إلخ، ثم ينظر إلى عجز نظامنا السياسي عن مواجهة تلك التحديات والتصدي لها، فإنه قد يتمنى حقيقة لو تضرب بلادنا أزمة جديدة أخرى أقوى ترغم ساستها على توحيد إرادتهم وصفوفهم في مواجهتها. فريد زكريا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رئيس تحرير مجلة "نيوزويك إنترناشيونال" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"