كُتب الكثير عن فكرة نهاية التاريخ، كما طرحها فرانسيس فوكوياما في سياق تشكل النظام العالمي الجديد على أشلاء "العالم الثنائي"، عالم الحرب الباردة وهيمنة التوازن بين الفريقين- القطبين، من خلال عامل الرّدع بتجلياته المتعددة، لكن هذه الوضعية تساقطت مع انتصار النظام المذكور، وظهر أن سقوط الاتحاد السوفييتي وتصاعد ثورتيْ الاتصالات والمواصلات أسساً لذلك الانتصار، مع غيرهما من العوامل والفواعل. ومرة أخرى وبعد مرور حوالي عِقدين، دار التاريخ دورة جديدة صغيرة عبّرت عن نفسها بصيغة الإفصاح عن إرهاصات أولى لتضعضع النظام المعْني. في هذا وذاك، ظل "فوكوياما" بعيداً عن التقاط الواقعة التاريخية المتمثلة في أن هيجل كان سباقاً في طرحه لفكرة "نهاية التاريخ"، حين أعلن -في حينه- أن جدلية المسار التاريخي انتهت بالنسبة إليه في الدولة البروسية (المقدسة) فكأنه، بذلك، قد وجّه اختراقاً نوعياً كبيراً لمنهجية الجدلية التاريخية المفتوحة. على ذلك النحو، وقع فوكوياما في خطأ فاحش، حين عاد لِما يماثل الفكرة التي عبّرت عن اختراق الجدل التاريخي الهيجلي. وإذا كان فوكوياما رجلاً نابهاً، فقد سجّل على نفسه نقطة خطرة، إذ أخضع نفسه للقول الشعبي الشهير: خطأ الشاطر بمائة خطأ، لقد أوقف المسار التاريخي لمصلحة حالة جديدة في التاريخ اعتقد أعنها نهاية هذا الأخير. وبصريح العبارة، وكما أعلن جمع من الباحثين الأجانب والعرب، مثل الإيطالي نورير توبوبيو، والمصرية نوال السعداوي، فإن فوكوياما كان في رأيه هذا منحازاً بوضوح لليبرالية الجديدة، التي أعلن أنه لا يوجد تناقض أساسي واحد لا يمكن حلّه في إطارها. انحياز فوكوياما لمصالح قوى اجتماعية دلّلت -في تماهيها مع ظلامية الليبرالية الجديدة المتوحشة- على عكس ما بشّر به هو. لقد دلّلت على أنها هي المرشحة للانحسار، وإن لم يكن راهناً. والمهم هنا أن فوكوياما قدّم نفسه، في ذلك المشهد الدرامي، على أنه المثقف الذي نظّر لنهاية تاريخ القوى البشرية الحيّة، ولأبديّة تاريخ القوى الليبرالية الظلامية. ولكن ما نظّر له (أي التاريخ)، أدار له ظهره، وربما أظهر له، كذلك، بعض الانتقام منه في صيغة التحولات التي اخترقت الغرب في عمقه، حين اجتاحته "الأزمة المالية" العتيدة، وحين جاء من يعبِّر عن وجودها أو تحرش بها، على نحو من الأنحاء، نعني أوباما، وذلك إذ أعلن، وإن بكيفية مواربة، عن غايته في تفكيك الأحادية القطبية. وبهذا، راح فوكوياما يظهر أمام الناس والتاريخ من حيث هو حفّار قبر هذا الأخير، وباعتبار أنه هو سقط في هذا القبر أثناء حفره. وإذا ما وضعنا يدنا على ما اعتبره فوكوياما الأساس النظري التاريخي لانغلاق التاريخ أمام القوى البشرية الحية، لم يُكتب تاريخها حقاً، فسوف تزداد طرافة المأساة التي وقع ضحيّة لها. فهو في سبيل التمكين لفكرة الانغلاق التاريخي المذكور، اعتبر أن الإيديولوجيات (وعصرها) قد انتهى، بل انهزم إلى غير رجعة. ولم يطل الأمر كثيراً، حتى ظهر التاريخ الجديد، تاريخ الليبرالية الجديدة المفتوح بإطلاق، بوصفه التعبير الأوفى عن إيديولوجية القتل الجماعي والاستباقي، وعن منظومة من القيم اتضح أنها الأكثر مكْراً وظلامية في التاريخ الحديث (لنتذكر قصة أسلحة الدمار الشامل في العراق وما تلاها من موبقات تصبّ كلها في إيديولوجيا الليبرالية الجديدة المتوحشة). وفي هذا السياق، ظهر أن من الممكن أن تغيب الإيديولوجيات عن الإعلام المباشر، ولكنها لا يمكن أن تختفي؛ لأنها حية في الوجود الإنساني الاقتصادي والسيوسيوثقافي وغيره. وهذا ما وضع عليه المفكر الإيطالي نورير توبوبيو، حين رأى أن فوكوياما كان عليه أن يدرك أن الإيديولوجيات لا تنتفي، وإن كانت تظهر بصيغ متعددة منها ما يُفصح عن نفسه بوضوح، ومنها ما يظهر بلباس الحاوي. لقد وقع الفيلسوف الألماني هيجل في فخّ إيديولوجيا المطلق اللاتاريخاني، حين أعن أن الدولة البروسية التي عايشها في حينه، نهاية التاريخ الألماني (وربما العالمي)، ولكنه لم يصل إلى أن هذه "النهاية الأبدية"، ستتجرد من المصالح البشرية التي تتأسس الإيديولوجيا عليها وعلى غيرها. أما فوكوياما، فقد تجاوز أستاذه، حيث لم يكتف بتدشين مرحلة ينغلق فيها التاريخ وينفتح فيها على (تاريخ أبدي هو تاريخ الليبرالية المذكورة). لقد تجاوز ذلك، حين أعلن أن ما سيأتي مع هذا "الجديد" لن يكون إلا الحقيقة التامة لخير البشر. لكن الأمر سيبلغ غايته الدّالة، حين يتساقط ذلك الوهم اللاتاريخاني على يد المرحلة البوشية، التي لم توفّر دليلاً على فسادها وخطرها إلا قدمته للناس، مما جعل السيد فوكوياما يتخلى هو نفسه عن ذلك الوهم. والسؤال ها هنا هو: هل على البشرية أن تدفع أثماناً غالية، كي تصل إلى برّ الأمان؟