في يوم 12 من أغسطس الجاري، منح الرئيس أوباما "ميدالية الحرية"، التي تُعد أرفع وسام مدني في أميركا، لـ16 شخصاً وصفهم بأنهم "شخصيات تساهم في التغيير"، من بينهم السيناتور إدوارد كينيدي، وعضو الكونجرس السابق والوزير الراحل "جاك كمب"، ومؤسس بنك "جرامين" البنغالي محمد يونس. وضمت قائمة المحتفى بهم أيضاً ماري روبنسون، أول رئيسة في إيريلندا ومدافعة مشهورة عن حقوق الإنسان ذاع صيتها في العالم، التي خصتها "عصبة مكافحة التشهير" ومنظمة "آيباك" بهجوم شرس، حيث جادلت المنظمتان المواليتان لإسرائيل في أميركا بأن روبنسون منحازة ضد إسرائيل، ودفعتا في تضاعيف هجومهما بحجج واهية وضعيفة للغاية. وهي حجج تقوم بالأساس على ترؤس روبنسون للمؤتمر العالمي لمناهضة العنصرية الذي عُقد في ديربان بجنوب أفريقيا عام 2001، وذلك بصفتها المفوضة السامية في مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة. وكان مؤتمر ديربان تعرض لهجوم شرس من قبل أنصار إسرائيل لانتقاده الشديد للسياسات الإسرائيلية. والحال أن ثمة أدلة واضحة على أن روبنسون لعبت دوراً مهماً في تخفيف نبرة المؤتمر، خاصة في ما يتعلق بتذكير المؤتمِرين بضرورة التزام الحدود حتى لا يقعوا في معاداة السامية. غير أنه لا شيء من ذلك ردع منتقدي روبنسون. والمفارقة أنهم حين يواجَهون بالحقائق التي تفند تهمهم، يعمدون بكل بساطة إلى رفع حدة خطابهم العقيم. وعلى رغم شراسة هذه التعليقات، والألم الذي سببه ذلك بدون شك لروبنسون، إلا أنني على يقين بأن المستهدف بهذه القضية المفتعلة هو أوباما أكثر من بروبنسون؛ ذلك أن التهم التي وُجهت لهذه الشخصية الإيرلندية المرموقة ليست باطلة ومؤلمة ومجحفة فقط، وإنما تمثل أيضاً حالة إسفاف سياسي رديئة. والشيء الذي أثار شكوكي أولاً هو صمت "عصبة مكافحة التشهير" و"آيباك" اللافت بشأن حقيقة أن القس الجنوب أفريقي ديسموند توتو مُنح هو أيضاً "ميدالية الحرية". ذلك أن "توتو" معروف بانتقاداته اللاذعة لإسرائيل، حيث يشبّه سياساتها في الأراضي المحتلة بنظام "الأبارتايد"، خلافاً لروبنسون التي طالما عبرت فقط عن قلق عام بشأن الحقوق الفلسطينية، ولا توجه سوى انتقادات "معتدلة" للسياسة الإسرائيلية عموماً. فكيف نفسر إثارة هذه الضجة حول روبنسون، والصمت حول القس توتو؟ الواقع أنه من المعروف أن بعض المنظمات الموالية لإسرائيل، مثل "عصبة مكافحة التشهير"، تستهدف روبنسون منذ سنوات، حيث كانت، مثلاً، تعبر عن سخطها في كل مرة تتسلم فيها روبنسون شهادة دكتوراه فخرية. ولكن أنْ تدخل "آيباك"، وأنصارها في الكونجرس، إلى هذه المعمعة، وبكل هذه الفجاجة، فذلك يدلل على أن الأمر يتعلق بمعركة سياسية في واشنطن. على أن الهدف المقصود ليس سحب ميدالية، وإنما إرسال رسالة استياء وامتعاض إلى أوباما على خلفية ضغطه المستمر على إسرائيل لتجميد الاستيطان، ثم اختياره للأشخاص الذين يتلقون التشريف. ويبدو أن "آيباك" تعتقد أن الهجوم على روبنسون طريق أسلم وأكثر أماناً لتوصيل هذه الرسالة، بدلاً من مهاجمة توتو. وخلال الأشهر القليلة الماضية، وبينما كان أوباما يواصل ضغطه على نتنياهو، كانت "آيباك" صامتة على نحو لافت، حيث لم تنتقد أو تتحد الرئيس بشكل مباشر، مثلما أنها لم تخض حملة للدفاع عن المستوطنات الإسرائيلية. وإنما سلكت طريقاً مباشراً أكثر، حيث اختارت دعم رسائل جماعية موقعة من قبل بعض أعضاء الكونجرس، مشيدة بـ"التزام إسرائيل بالسلام"، وداعية الرئيس إلى تخفيف الضغط عليها، وتوجيهه، بدلاً من ذلك، للدول العربية حتى تطبِّع العلاقات مع إسرائيل، باعتبار ذلك الخطوة الأولى في عملية السلام. وفي نهاية المطاف، هذا هو الهدف الحقيقي من وراء كل هذه الضجة المفتعلة -ليس قلقاً بشأن الانحياز ضد إسرائيل، وإنما ضربة لأوباما، وتذكير، من قبل "آيباك"، بالجدل العقيم الذي تستطيع اختلاقه. غير أن محاولاتها هذه المرة باءت بالفشل؛ لأنها أثارت حفيظة الكثير من الإيرلنديين والأميركيين المنحدرين من أصول إيرلندية؛ ولأن منظمات حقوق الإنسان عبر العالم، بما في ذلك داخل إسرائيل نفسها، هبّت للدفاع عن روبنسون؛ ولأن أوباما أيضاً رفض تلك الاحتجاجات، وقلد روبنسون الميدالية متجاهلًا ضغوط "آيباك"، ومَن وراء "آيباك".