شهد عاما 2007 و2008 زيادة هائلة في أسعار الغذاء حول العالم، مما أدى إلى وقوع أزمة دولية بكل المقاييس، تمثلت في اضطرابات سياسية واقتصادية واجتماعية، في كثير من الدول الفقيرة والدول النامية على حدٍ سواء. وبغض النظر عن سبب أو أسباب وقوع أزمة الأسعار الغذائية هذه، وهي قضية مازالت محل جدل كبير بين الخبراء والمتخصصين، إلا أن المتفق عليه بين معظمهم هو أن تلك الأزمة دفعت بقضية الأمن الغذائي Food Security إلى رأس قائمة القضايا الاستراتيجية التي تشغل بال مخططي المستقبل، وصناع القرار السياسي والاقتصادي على المستويين الوطني والدولي. ويمكن تعريف الأمن الغذائي بشكل مبسط على أنه توافر الغذاء بشكل دائم، والقدرة الفردية في الحصول عليه. فمثلاً، تعتبر أسرة ما \"مؤمَّنة غذائياً\"، إذا كان أفرادها لا يعيشون في حالة من الجوع المزمن، ولا يخشون المجاعة في المستقبل. وبشكل أكاديمي أدق، وحسب منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة \"الفاو\"، يتوافر الأمن الغذائي عندما تتوافر لجميع الأشخاص، وفي جميع الأوقات، القدرة على الحصول على قدرٍ كافٍ من الغذاء الآمن، وبدرجة تمكنهم من استيفاء متطلباتهم الغذائية، وتلبي اختياراتهم الشخصية، مما يمكنهم من الحياة الطبيعية الصحية. ونلاحظ هنا أن تعريف \"الفاو\"، لم يكتفِ بتوافر الاحتياجات الغذائية لجميع الأشخاص في جميع الأوقات، بل تطلب أيضاً أن تلبى تلك الاحتياجات من خلال أغذية يفضلها المرء، بناءً على خلفيته الثقافية والعرقية والدينية، وبشكل لا يقتصر على توفير حياة صحية فقط، بل حياة طبيعية يملؤها النشاط والسعادة كذلك. أما التعريف الآخر شائع الاستخدام، لتفسير مفهوم الأمن الغذائي، فهو تعريف إدارة الزراعة الأميركية US Department of Agriculture، الذي يضع شروطاً محددة واجب توافرها حتي يتمتع المرء بالأمن الغذائي، هي: 1- التوافر السهل والسريع لكميات كافية من الغذاء الصحي والآمن. 2- القدرة على الحصول عل هذا الغذاء من خلال سبل اجتماعية مقبولة، أي دون الاضطرار للجوء للسرقة، أو التنقيب في قمامة الآخرين، وحتى دون الاعتماد على المساعدات الغذائية الحكومية أو الدولية. ومن خلال التعريفين السابقين، يمكننا استنتاج أن توافر الأمن الغذائي، أو انعدامه، ليس ببساطة تصنيف \"أبيض أو أسود\"، أي أنه ليس مجرد حالتين فقط؛ في الأولى يتوافر فيها الأمن الغذائي بشكل تام، وفي الثانية ينعدم تماماً ليصل إلى درجة المجاعة. فالأمن الغذائي، أو بالأحرى اللاأمن الغذائي Food Insecurity، يمر بعدة مراحل آخرها هو المجاعة التامة، ووسطها حالات من القلق والخوف على توافر الغذاء في المستقبل، وربما حتى فترات ينقص فيها الغذاء وينعدم لأوقات محدودة، مما يمثل فترات من المجاعة المتقطعة قصيرة الأجل. وعلى رغم السهولة النسبية في تعريف مفهوم الأمن الغذائي، إلا أن الوضع يصبح أكثر تعقيداً، إذا ما حاولنا الخوض في الظروف الواجب توافرها كي يتحقق الأمن الغذائي، أو بالأحرى الأسباب التي قد تدفع بأسرة ما، أو حتى أفراد مجتمع برمته، نحو حافة اللاأمن الغذائي. ذلك أن أهمية هذا المجال في الآونة الأخيرة ومدى تعقيد العوامل المؤثرة والمتأثرة به، كانت هي الدافع خلف صدور دورية متخصصة في الأمن الغذائي للمرة الأولى العام الحالي بعنوانFood Security: The Science, Sociology and Economics of Food Production and Access to Food، أو \"الأمن الغذائي: العلم، وعلم الاجتماع، واقتصادات الإنتاج والحصول على الغذاء\". ويظهر هذا العنوان الطويل للدورية، الذي ربما كان هو الأطول بين عناوين الدوريات المتخصصة على الإطلاق، مدى تعقيد وتشابك الجوانب المختلفة للأمن الغذائي. وهذه الحقيقة اتضحت أيضاً مع إطلاق الحكومة البريطانية الأسبوع الماضي لمبادرة تعنى بتقييم عمق الأمن الغذائي في ذلك البلد الغني. فعلى رغم أن الشعب البريطاني يتمتع حالياً بقدرٍ كبيرٍ من الأمن الغذائي، إلا أن التغيرات المحتملة على صعيد المناخ، والزيادة المطردة في عدد السكان، على المتسويين المحلي والدولي، ستضعان الإمداد الغذائي لواحدة من أغنى دول العالم في مهب الريح. ولعلنا ندرك جميعاً التأثير المحتمل لظاهرة الدفء الحراري على المناخ العالمي، خصوصاً تسببها في فترات من الجفاف والقحط الشديد في مناطق تشكل سلة الخبز للعالم حالياً. ويكفي أن نعلم أن سنة واحدة من الجفاف في أستراليا قبل عامين، تسببت في رفع سعر القمح والخبز بمقدار الضعف حول العالم. أما الزيادة السكانية، فتشير التوقعات إلى أن على الأراضي الزراعية المتاحة حالياً، بما هو متوافر لها من مصادر مياه عذبة، أن تطعم مليارين أو ثلاثة مليارات شخص إضافيين، في غضون العقود الأربعة القادمة. وبين التوقعات، والاستشرافات، والإحصائيات، والتقديرات، تظل الحقيقة الوحيدة الثابتة هي أن 852 مليون إنسان يعانون حالياً من جوع مزمن، أو سوء تغذية طويل الأمد، بينما يعاني ملياران آخران من حالات متقطعة من المجاعات ومن القلق والخوف الغذائي. وهو ما يعني أن نصف أفراد الجنس البشري حالياً، يعيشون تحت سحابة من اللاأمن الغذائي، وهو عدد ترجح جميع التوقعات والدراسات أن يزداد بمرور الوقت. د. أكمل عبد الحكيم