لقد بدأت رحلة السيد \"يو كون\" نحو مستقبل تقل فيه انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون بيوم سيئ تفوح فيه رائحة الأسماك النافقة. وكان تعيين \"يو\" لمنصب عمدة مدينة \"بودينج\" الواقعة على بعد 100 ميل جنوب غربي العاصمة بكين قد صادف بدء نفوق الأسماك، التي تعيش في أكبر بحيرة من بحيرات المنطقة بالآلاف. ولم يكن أمامه سوى خيار واحد لوضع حدٍ لهذه المشكلة على حد قوله سوى إغلاق مئات المصانع التي تتسبب في تلويث مياه البحيرة، وبالتالي في نفوق الأسماك وغيرها من الكائنات البحرية الأخرى. وقد كلف هذا الإجراء مدينته ما يقارب نسبة 2 في المئة من نموها الاقتصادي السنوي، على رغم تمسك المسؤولين الصينيين بتحقيق معدلات نمو سنوي مرتفعة، إلى حد القداسة. فكان ذلك درس تعلمه \"يو\" جيداً هو: ما أكبر تكلفة تنظيف التلوث البيئي الذي نصنعه بأنفسنا أولاً. وفي سياق تعلم هذا الدرس المهم، قرر \"يو\" تبني موارد الطاقة البديلة المتجددة بدلاً من الصناعات التقليدية الملوثة للبيئة. وخلال ثلاث سنوات فحسب، تمكن \"يو\" من تحويل مدينته \"بودينج\" من مدينة لصناعة السيارات والمنسوجات، إلى أحد أسرع المراكز الصناعية الصينية نمواً وتخصصاً في صناعة المعدات والأجهزة اللازمة لتوليد الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والبيوماس. وتعد \"بودينج\" المدينة الأعلى والأسرع نمواً اقتصادياً في محافظة \"هيبي\" كلها. والدليل أن \"وادي الكهرباء\" الذي اتخذ اسمه فيما يبدو استعارة من \"وادي السليكون\" الأميركي، قد تمكن من مضاعفة استثماراته إلى أربعة أمثال ما بدأ به. وتعتبر مدينة \"بودينج\" من أقدم المدن الصينية. ولعل هذا ما يفسر استمرار وجود حقول الذرة وزهرة عباد الشمس فيها إلى اليوم، على رغم انتشار الأبراج السكنية العالية فيها، وعلى رغم كثرة المصانع فيها واعتماد إشاراتها الضوئية على الكهرباء المستخرجة من طاقة الرياح. ولكن يبدو أن وقت إزالة هذه الحقول التقليدية القديمة قد حان، مع ما نرى من ازدهار لصناعة أجهزة توليد الطاقة البديلة. وبدافع البحث عن طريق جديد لتنمية مدينته وتحديثها، بحيث تكون أكثر صداقة مع البيئة -على إثر مذابح الأسماك التي حدثت فيها- سافر \"يو\" في جولة إلى كل من ألمانيا وإسبانيا اللتين تعتبران من بين الدول الرائدة في مجال الطاقة البديلة المتجددة. وقد تركت تلك الزيارة تأثيراً واضحاً عليه، حيث عاد إلى بلاده وهو أكثر قناعة بأن الطاقة البديلة هي التي تمثل الاتجاه العام لمستقبل المجتمعات البشرية. ولم يكن درس الطاقة المتجددة هو الشيء الوحيد الذي تعلمه \"يو\" هناك، بل أدرك أيضاً أن لهذا النوع من الصناعة الحديثة إمكانات تحقيق معدلات نمو اقتصادي هائلة. لكن وعلى رغم ذلك، واجه \"يو\" صعوبات كبيرة في إقناع كبار المسؤولين سواء في حكومة المحافظة أم في الحكومة المركزية في بكين بهذه القناعات الجديدة. وكان من رأي هؤلاء أن تفكير \"يو\" ليس عملياً وأن فترة طويلة تتراوح ما بين 30-40 عاماً لا تزال تفصل بين الصين وتطوير مشروعات طاقتها البديلة المتجددة. وعليه، بدا \"يو\" في نظر هؤلاء وكأنه لا يقصد سوى مجرد المزاح بتلك الأفكار. وفي حالات كثيرة، ووجهت آراء \"يو\" هذه بمعارضة قوية من قبل بعض الشخصيات النافذة في الحكومتين المحلية والمركزية. وليس في تلك المعارضة ما يثير الدهشة، خاصة أن العمدة يميل إلى الحديث المتفائل والمتحمس جداً بما يصفه بـ\"فجر الحضارة البيئية\" في بلاده. يجب القول هنا أن حماس \"يو\" لتكنولوجيا الطاقة البديلة الصديقة للبيئة لا يصرف اهتمامه بأولوية النمو الاقتصادي وأهميته. وبفضل النجاح الكبير الذي حققه \"يو\" في المزج بين هاتين الأولويتين، أصبحت مدينته الآن مقراً لما يقارب حوالي 200 شركة وطنية من الشركات المستثمرة في مجال الطاقة البديلة المتجددة. وقد تخصصت إحدى هذه الشركات في صناعة أجزاء المراوح الهوائية المستخدمة في توليد طاقة الرياح في ولاية تكساس، بينما تخصصت شركة أخرى في صناعة الأطباق الشمسية اللازمة لأكبر شركة عالمية مستثمرة في توليد الطاقة الشمسية في البرتغال. يذكر أن جميع هذه الشركات التي تستضيفها مدينة \"بودينج\" تساهم في حشو خزانة حكومتها المحلية بعائدات الضرائب التي تحصلها. وهذا ما دفع العمدة \"يو\" إلى وصف صناعة الطاقة الخضراء المتجددة في مدينته بأنها أصبحت ركناً أساسياً من أركان اقتصادها المحلي. بل يتنبأ \"يو\" بأن تحل قريباً هذه الصناعة الجديدة محل الصناعات التقليدية التي عرفت بها المدينة من قبل، وفي مقدمتها صناعتا النسيج والسيارات. كما يجب القول إن ما يصلح هنا في مدينة \"بودينج\" ربما يصلح للعالم كله، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن هذه المدينة هي الأولى التي تتحول عالمياً إلى مدينة إيجابية في انبعاثاتها من غاز ثاني أكسيد الكربون. والمقصود بهذا المفهوم البيئي أن كمية الكربون التي يدخرها العالم سنوياً بواسطة استخدام الأجهزة والمعدات الصديقة للبيئة -وهي مما تنتجه المدينة الآن- تفوق انبعاثات المدينة نفسها من الغاز المذكور. وعلى حد قول \"رازموس راينفانج\" -محلل الطاقة بصندوق الطبيعة العالمي- فقد أظهرت تجربة مدينة \"بودينج\" هذه بدء تحول الصين إلى دولة مستثمرة في مجال الطاقة المتجددة، على الرغم من أنها لا تعتبر بين الدول الرائدة في هذا القطاع. وبالنظر إلى سعة السوق الصيني الهائلة، فإن في مقدورها أن تتحول إلى لاعب دولي كبير في تكنولوجيا الطاقة الخضراء. ------- بيتر فورد كاتب أميركي متخصص في الشؤون العلمية ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"كريستيان ساينس مونيتور\"