خسرت الفلبين مؤخراً امرأة حفرت لنفسها مكاناً في التاريخ الآسيوي رغم دخولها المتأخر للمعترك السياسي، وتواضع مواهبها السياسية، ناهيك عن خلو عهدها ما بين 1986 و1992 من أية إنجازات كبرى. والمقصود هنا السيدة كورازون أكينو - أو "كوري"، بحسب اسمها الشعبي، التي رحلت عن 76 عاماً بعد صراع طويل مع سرطان القولون. وهذه التي جاءت كرئيسة حادية عشرة للفلبين، وكأول رئيسة للجمهورية في آسيا، لها مكانة خاصة عند الفلبينيين، رغم أنها لم تنجز لهم الكثير كما أسلفنا، وتميزت إدارتها بالضعف وعهدها باللااستقرار وكثرة الانقلابات العسكرية. ومصدر هذه المكانة لم يتمثل فقط في صورتها الخارجية المتقاطعة مع صورة الغالبية العظمى من نساء الفلبين، شكلًا وملبساً وسلوكاً والتزاماً دينياً، وإنما أيضاً في ما مثلته كأيقونة للديمقراطية، وكرمز للانعتاق من الديكتاتورية، التي كبل بها سلفها الفلبينيين منذ إعلانه الأحكام العرفية في 21 سبتمبر 1972، علاوة على إلغاء دستور العام 1935، الذي كان يحدد فترة الرئاسة، ربما قطعاً للطريق على بنينو أكينو (زوج كوري) الذي كان آنذاك يعتزم دخول السباق الرئاسي معتمداً على تاريخ عائلته وخبرته السياسية الطويلة كسيناتور، ناهيك عن شعبية تحققت له من انتخابه في عام 1955، كعمدة لمدينة كونسيبشيون في إقليم "تارلاق"، وهو في الثانية والعشرين. إلى ذلك، نظر الفلبينيون إلى "كوري" على أنها تجسيد رائع للزوجة الوفية التي تواصل رسالة زوجها من بعده دون خوف من تبعات هكذا عمل، في ظل نظام أرعن يعيش على عصاته الأمنية والاستخباراتية، بل وجد فيها الكثيرون أيضاً نموذجاً للأم، التي لا تتخلى عن واجباتها الأسرية رغم كل مسؤولياتها العامة، خصوصاً أن تلك المسؤوليات كانت وقت وصولها إلى الحكم كبيرة ومرهقة بسبب ما تركه سلفها "فرديناند ماركوس" وزوجته "إيميلدا" وبطانتهما وراءهم من مشاكل مستعصية. وربما لولا حماقة "ماركوس" في التخلص جسدياً من خصمه "بنينو أكينو" السيناتور السابق ما بين عامي 1967 و1983، أي باغتياله بمجرد وصوله إلى بلاده من منفاه الأميركي، لما خرجت "كوري" من مطبخها لتصبح بين عشية وضحاها زعيمة سياسية تقود الجماهير، وتلهب حماسهم، وتزرع فيهم نزعة التحدي، وتستقطب إلى جانبها أيضاً رموز الكنيسة الكاثوليكية النافذة، وقسماً معتبراً من جنرالات الجيش والشرطة، ممن ساهموا معاً في ما عرف بثورة قوة الشعب في عام 1986، والتي أعادت وضع الفلبين على سكة الديمقراطية، وفصلت لها دستوراً جديداً يضمن الحريات المدنية. تلك الثورة التي ألهمت بدورها أمماً أخرى، كانت تعيش أوضاعاً مشابهة للوضع الفلبيني تحت حكم ماركوس. نعم! لقد أبت "كوري" طوال سنوات من ارتباطها بالسيناتور "بنينو أكينو" أن تنغمس في السياسة، مكتفية بتحضير الطعام والقهوة وتهيئة منزلها لاستقبال حلفاء زوجها. غير أن هذا الإصرار على الابتعاد عن عوالم الزوج، بدأ ينحسر ببطء حينما اضطرت كوري - بسبب الملل الذي نما عندها من إقامتها في أرياف "تارلاق" من بعد سنوات الإقامة في الولايات المتحدة - إلى مرافقة زوجها ورفاقه السياسيين إلى ولائم العشاء في نادي قاعدة "كلارك" الأميركية، وبالتالي مشاركتهم حواراتهم عن القضايا السياسية. بعد ذلك، كانت المرة الوحيدة التي خاضت فيها "كوري" السياسة علانية، هي في عام 1978، وذلك حينما شاركت في حملات انتخابية جماهيرية لصالح زوجها الذي كان معتقلًا وقتذاك، لكنه كان مصراً على دخول السباق الانتخابي. ولدت "ماريا كورازون سومولونج أكينو" في 25 يناير 1933 لعائلة ثرية من أصول صينية وإسبانية وفلبينية مختلطة. وكانت "كوري" هي الطفل السادس لتلك العائلة التي حرصت على إرسال أطفالها إلى أفضل المدارس. وهكذا، أرسلت "كوري" أولاً إلى كلية "سانت تشولاستيكا" في مانيلا، حيث أنهت دراستها في عام 1943 بتفوق، وأرسلت ثانيًا، في عام 1946 للانخراط لمدة عام واحد في مدرسة كنسية كاثوليكية في مانيلا، وأرسلت بعد ذلك إلى الولايات المتحدة للالتحاق بأكاديمية "رافينهيل" في بنسلفانيا، فمدرسة "نوتردام الكنسية في نيويورك، فكلية مونت سانت فينسينت في نيويورك أيضاً. في عام 1953، حصلت على بكالوريوس آداب اللغة الفرنسية وشهادة في طرق تدريس الرياضيات، حيث كان منتهى طموحاتها وقتذاك أن تعود إلى الفلبين لتدريس الفرنسية والرياضيات. بعدها، التحقت بجامعة الشرق الأقصى الفلبينية لدراسة القانون، قبل أن تتركها في عام 1954 لتتزوج من "بنينو سيرفيلانو أكينو" والذي أنجبت له ابنا وأربع بنات. لقد جاءت موافقة ماركوس على خروج آل أكينو من الفلبين إلى المنفى الأميركي في عام 1980 تحت ضغوطات إدارة جيمي كارتر. وعلى إثر ذلك، اختار "نينو" و"كوري" الاستقرار في بوسطن. تلك المدينة التي قالت "كوري" عنها لاحقاً أنها قضت فيها أجمل سنوات عمرها. ويبدو أن "نينو" لم يطق الابتعاد طويلاً عن وطنه رغم كل المغريات، فقرر بعد 3 سنوات، أي في 21 أغسطس 1983 أن يعود إلى الفلبين دون أسرته، ليغتال بمجرد وصوله إلى مطار مانيلا الدولي، الذي أطلق عليه لاحقاً اسم "مطار بنينو أكينو" تخليداً لذكراه وتضحياته. أما "كوري" وأبناؤها فلم يعودوا إلا بعد اغتيال "نينو" بعدة أيام للمشاركة في جنازته، والتي سار فيها نحو مليوني فلبيني، وعدت من أكبر الجنائز في تاريخ الفلبين. فيما خص التطورات التي سبقت فوزها بالرئاسة، لوحظ أنها في البداية كانت زاهدة في المنصب رغم إلحاح الكثيرين عليها بالترشح في انتخابات فبراير 1986، التي دعا إليها "ماركوس" فجأة في عام 1985 للهروب من تدهور نفوذه، وذلك بحجة أنها الوحيدة القادرة على توحيد الشعب خلفها لهزيمة ماركوس. وقتها كان مرشح المعارضة الأبرز هو السيناتور سيلفادور "لوريل" الذي ماطل طويلاً قبل أن يسحب ترشيحه، ويقبل ترشيح نفسه لنيابة الرئاسة. وفي انتخابات سادها العنف والتزوير والتهديد والحرب النفسية، بل سبقها أيضاً خطاب لماركوس استهزأ فيه بـ"كوري" واصفاً إياها بأنها "مجرد امرأة مكانها الفراش" سارع المتنافسان الرئيسيان إلى الإعلان عن فوزهما وسط تضارب النتائج المعلنة. فبينما كانت مصادر ماركوس تعلن في 7 فبراير 1986 عن فوز الأخير، كانت "كوري" ترفض تلك المزاعم وتهدد بالعصيان المدني، وإنزال الجماهير إلى الساحات، ورفض اقتراح الموفد الأميركي إلى مانيلا "فيليب حبيب" بتقاسم السلطة مع ماركوس. ولعل ما قلب الأمور لصالح "كوري" ليس فقط وقوف الكنيسة الكاثوليكية والإدارة الأميركية إلى جانبها، وإنما أيضاً ما حدث في 22 فبراير 1986 أي حينما أعلن وزير الدفاع "خوان بونسيه انريلي" ونائب رئيس أركان الجيش "فيدل راموس" تمردهما على ماركوس وانحيازها إلى الشعب، واعتكافها في قاعدتين عسكريتين، حيث تجمعت الجماهير بقيادة "كوري"، وبدعوة من الكنيسة بهدف عمل درع بشرية للحيلولة دون اقتحام قوات ماركوس للقاعدتين. وتجلى أثر ذلك الحدث على مجريات الأمور في أنها مهدت الطريق لـ"كوري" كي تقف في صبيحة يوم 25 فبراير 1986 في "كلوب فلبينو" لتؤدي اليمين الدستورية كرئيسة للبلاد أمام قاضي المحكمة العليا، فيما كان "ماركوس" يؤدي وحيداً القسم نفسه بالتزامن في قصر "ملاقانيان"، لكن ليهرب من غضبة الشعب عشية اليوم نفسه إلى هاواي، مصحوباً بزوجته وأبنائه. إن "كوري" التي وحدت الفلبينيين خلفها للتخلص من الديكتاتورية، وحدتهم مرة أخرى هذا الشهر بموتها. وبقدر ما كانت هذه السيدة شجاعة في مسيرتها ضد الظلم، كانت أيضا شجاعة في مقاومتها للمرض. فهي رغم علمها منذ مارس 2008 بأن أيامها باتت معدودة، فإنها واصلت حياتها الطبيعية بما في ذلك غرس قيم التصدي لكل من يحاول تغيير الدستور من اجل إعادة انتخابه لأكثر من فترة.