يُظهر السوريون وأنصارُهُم في لبنان قدْراً كبيراً من الارتياح لتطورات الأسابيع الأخيرة. فالوفود الغربيةُ (والأميركيةُ على الخصوص) تتدفقُ على دمشق حاملةً شتّى العروض والمُغريات. والإيرانيون انصرفوا عنهم للاهتمام بمشاكلهم الداخلية. والأتراك يحاولون بكلّ سبيل إبقاءهم تحت إشرافهم ليتقربوا بهم إلى الولايات المتحدة وإلى إسرائيل. وهم مسرورون -خاصةٍ فاروق الشرع- من قدرتهم على تعطيل التقارُب الفلسطيني -الفلسطيني، وإن أثار ذلك عليهم سُخْط المصريين وانزعاج السعوديين. كما أنهم مسرورون لتمكُّنهم -دون كبير جَهدٍ– من دفع وليد جنبلاط للتنكُّر لحلفائه في 14 آذار، وللمملكة العربية السعودية. ذلك أنهم أَثبتوا بذلك أنْ لا أحد -بما في ذلك حلفاؤهم في "حزب الله"- يستطيع التحرك على الساحة اللبنانية بدون موافقتهم أو مُشاركتهم. وعندما كان السوريون قبل شهرٍ ونيف متحمِّسين لتشكيل الحكومة اللبنانية بشرط أن يزورهم سعد الحريري قبل التشكيل أو بعده، ذهب إليهم الأمين العامّ لـ"حزب الله"، وقال للرئيس الأسد إنّ عليه أن يعطيهم فُرصةً للحصول هم وعَون على ما يستطيعونه قبل الإسراع في التشكيل. وانزعج الأسد، لكنه أظهر الموافقة، فانصرف مُفاوضو الحزب للتوافُق مع رئيس الحكومة المكلَّف وتوصـلوا لاتفاقٍ ما رجعوا فيه إلى سوريا. ولذا فقد اتجه السوريون لتسديد ضربة -عن طريق تحولات جنبلاط – إلى السعودية والرئيس المكلَّف و"حزب الله" معاً. وإذا لزم الأمر مزيداً من إظهار القدرة، فإنّ عون وسليمان فرنجية كفيلان بذلك في المفاوضات الحالية الجارية بينهما وبين الرئيس المكلَّف سعد الحريري. يعود الاضطراب اللبنانيُّ إلى أَوْجهِ إذن بعد الانتخابات النيابية، ليس بسبب سوريا وجنبلاط فحسْب، ولا بسبب تفكُّك جبهة قوى 14 آذار التي سبق أنْ فازت في الانتخابات، بل وبسبب التوتُّر المتصاعد في المنطقة على مستويين أو جبهتين: الجبهة الإسرائيلية التي تخوضُ جدالاً مريراً مع الأميركيين بشأن إيقاف الاستيطان، والعودة إلى التفاوُض، وبشأن ما تعتبره "تهديدات" لأمْنها من جهة "حزب الله" في لبنان، ومن جهة النووي الإيراني. والجبهة الأُخرى: الجبهة الإيرانية، والتي يحوطُها ويسودُها مشهدان: الاضطراب الداخلي، وتصاعُد المواجهة مع الغرب الأوروبي والأميركي. والمشهدان مترابطان؛ لأنّ الجهات الأمنية والسياسية الإيرانية مهتمةٌ بإظهار تورُّط الغرب في النزاع الداخلي بين الإصلاحيين ونجاد؛ ولأنّ الغرب، خاصةٍ الأوروبيون، مهتمٌّ بإظهار خروج إيران على الأعراف والقوانين الدولية في التعامُل مع مُواطنيها بالداخل ومع المجتمع الدولي؛ شأن ما جرى مع صدام حُسين من قبل، تمهيداً لزيادة العقوبات على إيران أو ما هو أفظَع. هذا الاضطراب الناجم عن العامِلَين سالفَي الذكر، تُضافُ إليهما محاولات الاستقواء والابتزاز الداخلي. فعَون ما يزال يريد توزير أقاربه، ويتوسَّل لذلك بالقول إنه لا يزال يمثِّل نصف المسيحيين. ويَضيفُ لذلك الآن إظهار الانحياز لسوريا وهو اتجاه معظم السياسيين المسيحيين الآن على اختلاف ميولهم، باستثناء سمير جعجع. ولا شكّ في أنّ جنبلاط صار عاملاً من عوامل القلق والاضطراب في مواجهة استقرار الأكثرية، وتسريع تشكيل الحكومة. وتعليلات جنبلاط لتحولاته أعجَب من التحولات ذاتها، بحيث يصحُّ القول فيها: رُبَّ عُذْرٍ أقبح من ذنْب! فهو يقول تارةً إنّ من حقّه الاعتصام بالخصوصية الدرزية. ولا أحد يتحدى الدروز كطائفة، لكنّ جنبلاط سبق أن اعتبر الشعار الشامل: لبنان أولاً، شعاراً انعزالياً. فإذا كان تقديمُ مصالح لبنان انعزالاً، فكيف النظر في تقديم مصالح الدروز وحدهم؟! ويقول الرجل أحياناً إنه حاول الاقتراب من سوريا تطبيقاً لدستور الطائف الذي يدعو لعلاقاتٍ مميَّزة مع سوريا! وهذا النصّ موجودٌ بالدستور منذ عام 1990، فلماذا لم يتذكَّره جنبلاط إلى الآن؟ لكنْ حتى لو قلنا إنه تاب ورجع عن الخطأ واكتشف الطائف وضرورته، فكيف يدعو لتعديل الطائف وتغييره بالتوافُق مع دعوة رئيس الجمهورية للإصلاح الدستوري؟! وبعد هذا وذاك وذلك، ينشر وليد جنبلاط الاضطراب أيضاً بدعواهُ الغريبة مثل إن الدروز تركوا العروبة ويريد إعادتهم إليها، ومثل أنّ السنة لا يحسُنُ استمرارُ التحالُف معهم بعكس الشيعة؛ وذلك لأنّ الأُصولية السنية شرٌّ من الأُصولية الشيعية! أو تعليل تحوله بأنّ إسرائيل سوف تُغيرُ على "حزب الله"، وسيرتدُّ الحزبُ للداخل فيريد وليد جنبلاط أن يكونَ معه وليس مع خصومه حتى يكون بمنأى عن الفتنة الشيعية -السنية المنتَظَرة! وإذا كان جنبلاط، لأي سببٍ كان، يريد تغيير المشهد باتجاهٍ آخَر، فلدى السياسيين المسيحيين -ومرةً أخرى باستثناء البطرك صفير وجعجع- الهمّ نفسه وإن اختلفت الأسباب. إذ تحدَّث عدةُ أقطاب مسيحيين عن تعديل الدستور لزيادة صلاحيات رئيس الجمهورية، كما تحدثوا عن ضرورة مصالحة مع سوريا، مُتناسين، مثل جنبلاط، ما حدث في السنوات الماضية! بيد أنّ الكلامَ الجنبلاطي والمسيحي عن الخَطَر الذي يُهدّد لبنان، لا يدفعُ هؤلاء الخائفين إلى تسهيل مهمة رئيس الحكومة المكلَّف بتشكيل حكومة وحدة وطنية أو ائتلاف، تستعدُّ لمواجهة التوترات الإسرائيلية إن كانت. وفي الواقع، فإنّ التهديدات الإسرائيلية كثيرة ومتصاعدة، كما لم يحدثُْ من قبل. وفي حين يؤكد جنبلاط على اقتراب موعد نشوب النزاع، يُصرُّ الأمين العام المساعد لـ"حزب الله" نعيم قاسم على أنه لا حربَ في الأفق، لكنها إن حصلت فسيكونون على استعداد! ولنعد إلى الاطمئنان أو الاضطراب السوري! سوريا مثل سائر الدول العربية من حول الكيان الصهيوني، فهي إمّا أنها أجرت اتفاقية سلامٍ معه مثل مصر والأردنّ، أو أنها اعترفت به من خلال القرارين 242 و338. والذين اعترفوا به المفروض أنهم أعدُّوا العُدَّة لتحرير أرضهم من خلال المفاوضات، بحسب القرارات الدولية (السلام في مقابل رجوع إسرائيل إلى حدود 5 حزيران 1967). أما فلسطين، فعهدوا بتحريرها لمنظمة التحرير الفلسطينية. وفي حين استعادت مصر واستعاد الأردنّ أرضهما بمعاهدتين للسلام المنفرد، فإنّ سوريا التي تفاوضت طويلاً مع إسرائيل ما حصلت على شيء. وقد عادت عبر تركيا قبل سنتين للتفاوض غير المباشر. وكانت تشترط للتفاوُض المباشر أن يكون برعاية الولايات المتحدة. بيد أنّ الولايات المتحدة التي أرسلت مبعوثَها جورج ميتشل إلى سوريا مرتين حتى الآن، تريد أن يحدث تقدمٌ على المسار الفلسطيني أولاً. والمفهوم أنّ سوريا تستطيع التفاوُض، لكنها لا تستطيع الوصول بالأمر إلى نهايته (معاهدة السلام مع إسرائيل). إلاّ بعد التحرر من التنظيمات الثورية ومن إيران، وهو ما فشلت فيه حتى الآن رغم الضغوط الهائلة. وذلك إمّا لأنّ المغريات الأميركية ما كانت كافية، أو لأنّ النظام السوري مقسمٌ بالداخل على نفسِه بين الحرس القديم (الإيراني) والآخر الجديد، ولا يستطيع التحرك أو يواجه الحرب مثلما حصل عام 2006 في حرب لبنان، وآخر عام 2008 في حرب غزة. وتعبيراً عن هذا العجز أو اللاجدوى، يعود النظام السوري -رغم الاطمئنان الظاهر- إلى الألاعيب الصغيرة واستخدام الأوراق المُغَطَّاة، مثل التأثير في "حماس" أو التأثير في لبنان عن طريق جنبلاط أو عون أو إظهار إمكان خدمة الولايات المتحدة في أَمْن العراق باستقبال وفد عسكري أميركي... إلخ. وهذا كُلُّهُ لا يُعيدُ علاقات الثقة السابقة مع طهران و"حزب الله"، ولا يؤسِّس لعلاقات جديدة مع السعودية ومصر، كما أنه يُشْعِرُ تركيا وفرنسا وقطر- وهي الدول التي تريد مساعدة سوريا- بالقدرة المحدودة للنظام السوري على التغير والتغيير. ولا شكَّ في أنّ النظام اللبناني ما استطاع الوصول إلى حالةٍ من الاستقرار والتوازُن لا بالمقاييس الداخلية، ولا عن طريق الحوار والأصدقاء. لكنّ الاضطراب السوريَّ علتُهُ الاعتقادُ بأنّ بقاء النظام السوري أو استقراره رهنٌ بأحد أمرين: الاستيلاء مجدداً على لبنان أو نشر الاضطراب فيه. بينما تأتي نصائحُ الأصدقاء والخصوم للنظام السوري بأنه لا حلَّ لمشكلات النظام في سوريا، ومن ضمنها تجديد شرعيته؛ إلاّ بثلاثة أمور: العلاقات الحسنة مع الدول العربية الثلاث المحيطة به، وانتهاج سياسات تنموية وتطويرية قوية بالداخل، والعمل من خلال المبادرة العربية والمجتمع الدولي على تحرير الجولان!