بدأت أوروبا التقدّميّة تتهيّأ للاحتفال بالذكرى العشرين لسقوط جدار برلين. فهذا الحدث الضخم كان البداية النُصبيّة، وإلى حدّ بعيد العمليّة، لانهيار ما عُرف بـ"المعسكر الاشتراكيّ"، فاتحاً الباب أمام استعادة بلدان أوروبا الوسطى والشرقيّة أنظمتها الديمقراطيّة، كما أمام وحدة ألمانيا، وتالياً وحدة القارّة التي كانت قد جزّأتها الحرب الباردة وتقاسُمها بين نظامين إيديولوجيّين متناحرين. فكيف قام هذا الجدار وكيف انهار؟ في 19 أغسطس 1961 كلّفت السلطات الألمانيّة الشرقيّة، أو الديمقراطيّة حسب تسميتها الذاتيّة، بعض الجنود والعمّال مباشرة بناء جدار على خط التقسيم الذي يفصل بين البرلينين، تبعاً للتقاسم الذي أسفرت عنه الحرب العالميّة الثانية ومعاهداتها. وخلال ثلاثة أيّام وُضعت مسوّدة جدار، أو بالأحرى جدار تخطيطيّ وأوّليّ، مهمّته وقف حركة الانتقال بين شطري المدينة. وبالتدريج راح الجدار التخطيطيّ يتحوّل جداراً فعليّاً ما لبث أن أضيفت إليه أضواء كاشفة وأسلاك شائكة ومراكز للحرس. هكذا قُصّت شوارع وساحات إلى نصفين فيما أُخضع ما تبقّى من مواصلات في تلك المدينة المجزّأة لرقابة بوليسيّة صارمة. رسميّاً، كان لبناء الجدار أن أثار في الغرب الخشية، بل الرعب. فلثلاثة أيّام من أكتوبر تواجهت الدبّابات الأميركيّة والسوفييتيّة. لكن ما إن استرخت الدبّابات حتّى شعر الكثيرون من القادة الغربيّين، وراء الكواليس والمظاهر، بحالة من الارتياح. ذاك أن برلين شرعت منذ 1958 تمثّل سبباً محتملاً لاندلاع حرب انطلاقاً منها، تماماً كما كانت الحال في 1948. ويبدو، حسب وثائق ظهرت لاحقاً، أن الرئيس الأميركيّ جون كينيدي وزعماء غربيّين آخرين توصّلوا إلى القناعة القائلة إن جداراً فاصلاً يبقى، على رغم مساوئه جميعاً، خيراً من حرب مفتوحة. فما من زعيم غربيّ كان قادراً على إرسال جنوده إلى الموت "دفاعاً عن برلين" علماً بأن دماء الحرب العالميّة الثانية لم تكن قد جفّت بعد، ووعود الرخاء كانت تُقنع الأوروبيّين بأن صفحة جديدة في تاريخهم مختلفة كليّاً عن السابق قد فُتحت. كذلك، ومن موقع الضدّ، انتاب كلاًّ من واشنطن وموسكو شعور بأن جداراً يضع حدّاً لتأجّج المشكلة البرلينيّة يقوّيهما في وجه حليفيهما الصغيرين. ففي ظلّ المواجهة المفتوحة، كان في وسع الألمان الغربيّين أن يبتزّوا واشنطن بالقدر الذي يبتزّ به الألمان الشرقيّون موسكو، دافعين بعاصمتي الدولتين الكبريين إلى تبنّي أكثر المواقف ملاءمة لهما. وفي المقابل، وعلى نحو مفارق، أحسّ الطرفان الألمانيّان بأن بناء الجدار، ومن ثمّ السيطرة على الطابع الانفجاريّ لأزمة برلين، يريحانهما ويطمئنانهما إلى زوال فكرة الصفقة بين الجبّارين: فشيوعيّو ألمانيا الشرقيّة لم يغادرهم الخوف من أن تتخلّى عنهم موسكو، وهو نفسه ما ساور ديمقراطيّي ألمانيا الغربيّة حيال واشنطن، في حال وقوع صدام عسكريّ كبير عادةً ما تتلوه تنازلات مُرّة يدفعها المهزوم للمنتصر. هكذا خسرت المسألة البرلينيّة، ببناء الجدار، بُعدها كبؤرة توتّر دوليّ، حيث انتقلت المواجهة إلى كوبا، ومن بعدها إلى الهند الصينيّة وأفريقيا والشرق الأوسط، كما تبدّى في حرب 1967 العربيّة- الإسرائيليّة. ومع هذا بقي من تلك المسألة، مرموزاً إليها بجدار برلين، بُعدها الداخليّ والأوروبيّ: فالجدار لم ينشأ أصلاً إلاّ لـ"حماية بناء الاشتراكيّة بعيداً عن التخريب الرأسماليّ"، بحسب الدعاية الرسميّة للألمان الشرقيّين. وكان ما تعنيه هذه اللغة فعلاً أن الشيوعيّين لن يتمكّنوا من إحكام سيطرتهم البوليسيّة على الجزء الألمانيّ الذي يسيطرون عليه، وتالياً على بلدان أوروبا الوسطى والشرقيّة، من دون صدّ التأثيرات التي يجسّدها الغرب والرأسماليّة، أتمثّلت في الحريّات الفرديّة أم في الازدهار الذي أطلّت طلائعه مع مشروع مارشال لإعادة بناء أوروبا الغربيّة. وهذا كلّه ما شرع يتغيّر بتولّي ميخائيل جورباتشوف سدّة الكرملين، ومع الأصداء الإيجابيّة المتفاعلة معه والمستجيبة له في سائر أرجاء الكتلة الشيوعيّة. لكنّ النظام الألمانيّ الشرقيّ شاء ألاّ يتعلّم مما كان يجري في موسكو ووارسو وبودابست. فالشيوعيّون الحاكمون هناك أجروا انتخابات بلديّة في مايو 1989 جاءت نتائجها لتمنح المرشّحين الحكوميّين نسبة تزيد على 98 في المئة من المقاعد! وبنتيجة تلك الانتخابات المزوّرة انفجرت حركة اعتراض قادها رجال دين وجماعات بيئويّة وغيرهم، لا بل اجتذبت أطرافاً أبعد نظراً في السلطة نفسها. وكان النذير الأوّل للقادة الألمان الشرقيّين حين بدأ الستار الحديديّ ينهار في هنجاريا المجاورة جارفاً في طريقه الحدود والجدران. وهكذا بات في وسع آلاف الألمان الشرقيّين الذين يصطافون في هنجاريا أن يعبروا منها إلى ألمانيا الغربيّة من دون أيّة عوائق، ومن ثمّ راح ينضمّ إلى هؤلاء آلاف الألمان الشرقيّين التوّاقين للوصول إلى الغرب. وكانوا وهم يفعلون ذلك لا يقتصدون في إبداء الفرح الانتصاريّ بالتغلّب على نظام هو أشبه بسجن كبير -نظامٍ بات طابعه الكرتونيّ يتّضح أكثر فأكثر. وإذ كانت هذه الأحداث تكشف هزال النظام، تشجّع المعارضون فشكّلوا تنظيمات مهمّتها استكمال إسقاطه. هكذا تأسّس "المنبر الجديد" الذي تلاه بعد أيّام قليلة إنشاء "الديمقراطيّة الآن"، وهما حركتان تناضلان، حسب تعريفهما الذاتيّ، لـ"إعادة هيكلة" البلد. وكان الحدث التاريخيّ الآخر في 7 أكتوبر، حين قام جورباتشوف بزيارة برلين للمشاركة في الاحتفال بذكرى مرور أربعين عاماً على تأسيس "جمهوريّة ألمانيا الديمقراطيّة". هناك تصادم الزعيم السوفييتيّ والزعيم الألماني الشرقيّ، المقدود من صخر، أريك هونيكر. وبالاستناد إلى الزيارة السوفييتيّة، وباستلهام دلالاتها، انفجرت حركة تظاهرات احتجاجيّة في المدن الكبرى، كما نفّذ "الشيوعيّ الإصلاحيّ" إيجون كرينزي انقلابه، في 18 أكتوبر، على هونيكر، واعداً بحركة بيريسترويكا على الغرار الجورباتشوفيّ. غير أن الاستعدادات والمطالب الجماهيريّة كانت قد سبقته كثيراً، وبالفعل شهدت مدينة لايبزغ تظاهرة ضمّت 300 ألف شخص، تلاها، في 4 نوفمبر، تظاهر نصف مليون شخص في برلين يطالبون بالإصلاح الفوريّ والجذريّ. وما لبثت الحكومة أن استقالت لشعورها بالعجز عن وقف التطوّرات المتسارعة، وجاء مكسب حريّة السفر من دون حدود ولا قيود ليعلن نهاية النظام القديم، فترافق انفجار الفرح بهذا المكسب الضخم وانفجار الغضب حيال جدار طالما أوحى للسكّان بعبوديّتهم في عصر ما بعد العبوديّة. وانهالت الأيدي والفؤوس على ذاك الرمز فحطّمته وحوّلته أحجاراً تُهدى كذكرى وكتذكار عن عالم لن يعود ثانيةً إلى أوروبا.