إسرائيل كانت تركز على المفاوضات غير المباشرة مع سوريا، لتصل إلى مفاوضات مباشرة، فتصل بعدها إلى اتفاق. وتركيا كانت الوسيط الناشط والفاعل. بعد الحرب على غزة توقفت المفاوضات، ولكن الإدارة التركية أصرت على معاودتها. فقاد المسؤولون الأتراك اتصالات مع السوريين والإسرائيليين، ونقلوا رسائل متبادلة للعودة إلى المفاوضات من "النقطة التي توقفت عندها"، وهو الشعار الذي يتجدد اليوم بعد استخدامه منذ عشر سنوات وأكثر، وكان يتم اللجوء إليه كلما تعثرت أو توقفت المفاوضات بين العرب وإسرائيل، وخصوصاً بين سوريا وإسرائيل. اليوم، الوفود الأميركية تتوالى إلى دمشق، وفود أمنية وعسكرية وسياسية، وتنسيق حول أمور كثيرة لا سيما في العراق حيث الموضوع الأهم بالنسبة إلى الإدارة الأميركية وحيث الدور السوري مهم ومؤثر. كان كثيرون يعتقدون أن هذه الإدارة تقوم بوساطة أيضاً وتريد مفاوضات بين سوريا وإسرائيل. فجأة خرج رئيس الحكومة الإسرائيلية نتانياهو ليعلن أن لا مفاوضات غير مباشرة مع سوريا بعد الآن وأنه يريد مفاوضات مباشرة... وكان قد سبقه وزير خارجيته بالإعلان أن إسرائيل لن تنسحب من الجولان، أو بالأحرى أن الجولان سيبقى تحت السيادة الإسرائيلية. مما يعني أن لا مفاوضات لا مباشرة ولا غير مباشرة وأن طريق عصابة الحكم في إسرائيل هو طريق التصعيد والضغط والابتزاز والتهديد والوعيد وربما الحرب أيضاً... في لبنان، كان المسؤولون الإسرائيليون يقرعون طبول الحرب. لم يتحدثوا هذه المرة عن مبرر أمني. هددّوا لبنان وحكومته واعتبروهما مسؤولين عن كل ما يمكن أن يحدث إذا شارك "حزب الله" في الحكومة الجديدة! ثم فجأة خرج نتانياهو ليقول: "كل ما نشر عن سيناريوهات حرب مع لبنان غير صحيح. ولا أساس له"! لماذا هذا الكلام؟ وهل تراجع هو وكل أركان فريقه عن مواقفهم؟ هل يعتبر كلامه مطمئناً للبنان والمجتمع الدولي؟ العكس تماماً. ما يجب أن يقرأ ويؤخذ من تصريح نتانياهو. فكل ما يجري ويعلن من مواقف هو مجرد مناورات إسرائيلية لكسب الوقت. أما في الممارسات فالدلالات واضحة. هم لا يخططون إلا للحرب. هذا ما يجري في فلسطين وهذا ما يجري على الحدود مع لبنان وهذا ما يمارس مع سوريا ولو على مستوى الابتزاز... إسرائيل تريد كسب الوضع للانتهاء من فترة السماح الموضوعية الموجودة أمام الإدارة الأميركية الجديدة، والتي طرحت أفكاراً ومبادرات أوحت بتغيير جدي في التعاطي مع القضايا الأساسية قياساً على ما كانت تقوم به الإدارة السابقة. بعض الدبلوماسيين العرب والمتابعين للسياسة الأميركية من داخل واشنطن وأروقة الأمم المتحدة يؤكدون أن ثمة تغييراً، وأن ثمة رغبة في فعل شيء وأن ثمة قناعة بدأت تتكّون لدى أركان الإدارة الجديدة بأن لا أمن ولا استقرار في العراق وأفغانستان وباكستان والشرق الأوسط عموماً، إذا لم يحصل تقدم على صعيد حل القضية الفلسطينية. هذا كلام حق. ولكن هل القناعة الأميركية حقيقية؟ ربما ثمة مبالغة في قراءة الموقف والنوايا الأميركية. لكن لنعطِ الفرصة حقها. لنتعامل مع الموضوع على أساس أنه قائم آخذين بعين الاعتبار الاحتمالات الأخرى وواضعين أمامنا أسوأ الاحتمالات، فنكون ساعتئذٍ جاهزين للتعامل معها من دون مفاجآت، بل بجهوزية تامة في مواجهة إسرائيل. شخصياً أرى ملامح تغيير في الخطاب الأميركي، لكنني لا أرى إمكانية للتأثير في القرار الإسرائيلي اليوم. إسرائيل تخترع المشاريع والأفكار والمبادرات والمناورات، وتفتعل الأزمات، وتتحرك في كل الاتجاهات، وعلى كل المستويات داخل أميركا وخارجها للتهرب من أي ضغط أميركي ولتحميل الفلسطينيين مسؤولية ما يجري وامتداداً لاتهام المسلمين بالإرهاب والتحذير من هذا الخطر. وعلى الأرض هي تقوم بكل ما ينسجم مع خططها التي أعدت للاستيطان وطرد الفلسطينيين ومصادرة الأراضي وإسقاط حق عودة اللاجئين إلى ديارهم. وهي تستفيد من لعبة الوقت ومناوراتها وبالتالي قد تنجح في تمرير فترة السماح المعطاة للإدارة الأميركية لتكرس أمراً واقعاً جديداً. وعنصر الإفادة الأولى هو الانقسام الفلسطيني. مشهد غزة مؤلم، مشهد مؤتمر "بيت لحم" لحركة "فتح" مؤلم ومؤسف. أين كانت الحركة؟ وأين أصبحت؟ المشهد بين غزة وبيت لحم مؤلم. "حماس" تمنع ممثلي فتح من الذهاب إلى مؤتمرهم و"فتح" تتهم "حماس" بممارسات وارتكابات خطيرة، وإسرائيل تتهم الاثنين، وتريد معاقبة ومحاسبة الجميع! أما الواقع العربي، فهو أشد إيلاماً. العراق شبه مفكك، ولم يخرج من دائرة العنف والصراعات المذهبية والعرقية والطائفية. وموارده نهبت والفقر فيه إلى ازدياد. وصراعات كبيرة على أرضه. وموضع انقسام عربي فلا رؤيا واحدة، ولا سياسة واحدة تجاهه. واليمن يعيش أوضاعاً دقيقة وحساسة للغاية ودفعت البعض إلى الحديث عن حرب سادسة، مع ما سيكون لذلك من انعكاسات خطيرة على كل الجوار. وفي مصر أزمة كبيرة، لفحت شظاياها دولاً عربية أخرى بسبب الموقف من الحرب على غزة والموقف من "حماس" وما يجري على معبر رفح. والسودان يعاني أزمة كبيرة، ولا يزال محاصراً فعلياً من الداخل والخارج من دارفور إلى قرار المحكمة بحق الرئيس البشير. ولا توافق هنا بين العرب حول كيفية التعاطي مع كل هذه القضايا والمخاطر. حتى بالنسبة إلى الموضوع الفلسطيني، الانقسامات كبيرة، وكذلك بالنسبة إلى كيفية التعاطي مع إيران. تحاول المملكة العربية السعودية التي بادر قائدها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى إعلان إنهاء كل الخلافات العربية من جانبه في قمة الكويت الاقتصادية الأخيرة، وتفعيل هذه المبادرة لتأكيد تضامن عربي حول كل القضايا المطروحة، لأن قيادتها مدركة كل المخاطر. وهي تخوض عملية تحدٍ كبير للواقع العربي، لكنها لم تجد الشركاء الذين يتمتعون بقوة الانتصار على الذات، لتجاوز الأزمات والانفعالات الشخصية والخلافات مع الآخرين، وما رسالة الملك عبد الله إلى الأخوة الفلسطينيين أثناء انعقاد مؤتمر "فتح" إلا الشاهد على الصدق والنبل في التعاطي وعلى الشجاعة في الإقدام. لكن المملكة وحدها لا تستطيع أن تغيّر. مطلوب من الآخرين التفاعل على كل الساحات وفي كل القضــــايا والاتجاهات . فالمرحلة تستوجب وتستحق عملاً عربياً تضامنياً يحمي كل العرب وقضاياهم . أما التعاطي بسياسة المفرّق فلن تجدي نفعاً.