يوم الثلاثاء الماضي، انتقل أوباما إلى "نيو هامبشير" لمواجهة ما أسماه تكتيكات زرع الخوف لدى الرأي العام التي يلجأ إليها خصومه المعارضون لخطة إصلاح الرعاية الصحية، التي اقترحها على الكونجرس، لكن من الواضح أن النقاش الدائر حالياً حول الخطة قد تحول إلى معركة بالوكالة ترتكز حول ما إذا كانت الحكومة الفيدرالية بصدد بسط سيطرتها على الاقتصاد. وهكذا، وجد أوباما نفسه في وضع دفاعي بشأن الرعاية الصحية، لا سيما بعد طرحه لخيار التأمين الحكومي، لتتحول مبادرته إلى هدف سهل للخصوم، الذين يتهمون إدارته بأنها تقف وراء أكبر توسع تشهده الحكومة الفيدرالية منذ برامج "المجتمع العظيم" في الستينيات التي أقرها الرئيس ليندون جونسون. غير أنه مع ذلك، وخلافاً للنقاشات الحادة والصاخبة، التي شهدتها اجتماعات مجالس المدن جرت جلسة النقاش التي عقدها أوباما بمدينة "بورتسماوث" في أجواء هادئة، إذ لم تمنع الاحتجاجات التي نظمت خارج مقر الاجتماع أوباما عن الاستماتة في الدفاع عن مبادرته وتأكيد أن التغيير في نظام الرعاية الصحية هو أقل خطورة من بقائها على وضعها الحالي، لكن دفاعه ذلك ليس سوى بداية الطريق، فهو يحتاج إلى تحسين شروط النقاش، حتى يستعيد الزخم الذي كان موجوداً قبل بضعة أشهر. فأوباما ما كان له أن يواجه هذا الموقف الصعب لو لم تستقبله ظروف غير مألوفة عندما تولى الرئاسة، فعلى مدى الأشهر العشرة الماضية لعبت واشنطن تحت إدارتين دوراً حاسماً في إنقاذ قطاعات اقتصادية أساسية للحيلولة دون الانهيار التام للنظام الاقتصادي. فإبان إدارة جورج بوش، ظهرت عمليات الإنقاذ التي طالت بنكي "فاني ماي" و"فريدي ماك"، ثم جاء بعدها إنقاذ شركة التأمينات الأميركية، وتوالى لاحقاً ضخ الأموال في المؤسسات المالية المتعثرة إلى أن وصل الأمر إلى إدارة أوباما التي خصصت بدورها حزمة للإنعاش الاقتصادي بلغت 800 مليار دولار تقريباً من خلال برامج جديدة للإنفاق وإعفاءات ضريبية، وهو ما جعل من واشنطن محركاً أساسياً في عملية إنعاش الاقتصاد، بدل القطاع الخاص الذي بدا عاجزاً تحت وطأة الأزمة الائتمانية وتراجع ثقة المستهلك عن القيام بمهامه التقليدية. وفي مرحلة لاحقة، شهدنا التدخل الحكومي لإنقاذ شركات السيارات بعدما شارفت على الإفلاس، وامتلكت الحكومة الفيدرالية نتيجة لذلك حصة مهمة في أسهم تلك الشركات، ورغم تطمينات أوباما للأميركيين بأنه لا ينوي بسط سيطرة الحكومة على الاقتصاد وتحويلها إلى مشرف عام على الشركات في المدى البعيد، فإن إدارته سرعان ما أقالت المدير التنفيذي لشركة "جنرال موترز"، وأملت شروطاً أخرى مقابل المساعدة الحكومية للخروج من الأزمة. ويجادل مسؤولو البيت الأبيض في معرض الدفاع عن سياسات الإدارة بأن القرارات التي اتُخذت كانت ضرورية بالنظر إلى الوضع الاقتصادي الهش والنتائج الوخيمة، التي قد تترتب على السماح بانهيار الشركات الأميركية، لا سيما بعد التأثير السلبي لترك إدارة بوش شركة "ليهمان برادرز" تتدبر أمرها وتعلن إفلاسها. ومهما كانت الحجج والذرائع، فإن ما يطلبه أوباما من الرأي العام الأميركي هو الموافقة على توسيع مهم للدور الحكومي في القطاع الخاص؛ لذا يبقى من العوامل المهمة التي ستحدد نجاه إدارة أوباما من عدمها هو مدى قدرته على إقناع الشعب الأميركي بحجم التدخل الحكومي الذي يطرحه حالياً، بالإضافة إلى تسويقه لفكرة أن ما قام به لحد الآن أملته الضرورة وليست الأيديولوجية. فهل ينظر الأميركيون إلى قرارات أوباما على أنها ضرورة لا بد منها على المدى القريب على الأقل، أم أنهم يرون في الرئيس مؤيداً ليبرالياً لدور حكومي كبير في بلد مازال يضمر الكثير من الشك والريبة تجاه احتكار واشنطن للسلطة؟ من الصعب الإجابة الآن عن هذا التساؤل بالنظر إلى استمرار النقاش، وهو ما يعتقد "الجمهوريون" أنه النقطة التي تضعف الرئيس ويمكنهم استغلالها لصالحهم. والحقيقة، أن أوباما كان واعياً لهذه المخاوف منذ البداية؛ لذا أكد مرار أنه لا يتعامل مع فوزه كتفويض شعبي لتوسيع الدور الحكومي، إذ قال في أحد اللقاءات إن الرئيس ريجان دشن مرحلة "من الشك تجاه الحلول الحكومية التي تسعى لمعالجة جميع المشاكل"، وهي تركة مستمرة للتيار "المحافظ" لم تقوضها انتخابات العام 2008. هذه القضية المرتبطة بحجم الدور الحكومي في الاقتصاد ظهرت جلياً في النقاشات الأخيرة التي أحاطت بخيار التأمين الصحي الحكومي، ففيما يقول المؤيدون إن مثل هذا الخيار الذي ستموله الحكومة سيمنح الأميركيين بدائل أكثر وسيقلل التكلفة بفتح مجال المنافسة مع الشركات الأخرى يرى المعارضون في الخيار الحكومي، أنه خطوة إلى الوراء ستقلص من جودة الخدمات الصحية المعروضة على الأميركيين. ومع أن الخيار الحكومي يروق لتيار "اليسار" ضمن الحزب "الديمقراطي"، إلا أن بعض قادة الحزب أبدوا استعداداً للتضحية بالخيار الحكومي لإنقاذ مشروع الرعاية الصحية في الكونجرس، ووصوله إلى مكتب أوباما للمصادقة النهائية. وربما يفضل الرئيس استخدام الخيار الحكومي كورقة مساومة لإنجاح عملية التصويت على المشروع في وقت لاحق، لكن في هذه الحالة ألا يجدر به استخدامها الآن لتوجيه سير النقاش بإعلانه استعداده إلغاء الخيار الحكومي؟ دان بالتز محلل سياسي أميركي يُنشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"