مبارزات الساسة البريطانيين ----------- من يعتقد من المراقبين لتطورات الصراع السياسي في بريطانيا اليوم، أن النظر إلى رئيس الوزراء الحالي جوردون براون، في تعارضه مع سلفه توني بلير، يبدو فكرة سيئةً، لما فيها من تغليب للطابع الشخصي على الصراع بينهما؟ من يعتقد هذا فهو مخطئ دون شك، كما يقول "جون كامبل" مؤلف الكتاب الذي نعرضه هنا، وهو يتتبع سجال قرنين من ثنائيات الصراع الشخصي بين الساسة البريطانيين، لينتهي أخيراً بالصراع الحالي بين براون وبلير. في تمام الساعة السادسة من صباح الحادي والعشرين من سبتمبر عام 1809، تقابل رجلان وجهاً لوجه في ساحة "بوتني هيث" للمبارزات بلندن. وخلالها اخترقت أربع رصاصات فخذ أحد المتبارزين. لم تكن المبارزة السياسية التي جرت في ذلك اليوم أمراً غير مألوف في حينه، كما يقول الكاتب. ولكن ما أعطاها خصوصية دون غيرها هو أن المشاركين فيها: اللورد كاسترليه وجورج كانينج قد شغل كلاهما منصب وزير الحرب والخارجية على التوالي. وكان إطلاقهما الرصاص على بعضهما البعض، قد صادف ذروة الحرب المصيرية المتأججة التي كانت تخوضها بريطانيا ضد قوات نابليون، بينما كان الوزيران المتبارزان، هما من تقع على عاتقه مسؤولية تقرير مصيرها. كان ذلك هو العصر التقليدي لخوض المبارزات بمعناها الحرفي، والذي يتضمن المواجهة بالمسدسات بين الساسة البريطانيين آنذاك. أما اليوم، فقد انتقلت هذه الخصومات والمواجهات السياسية إلى حيز الإعلام. فهي تشبع نهم صحف التابلويد والصحافة الصفراء إلى كل ما له علاقة بفضائح وأسرار التنافس الشخصي على السلطة والنفوذ بين قادة 10 داوننج ستريت. مؤلف الكتاب هو كاتب سيرة سياسية معروف، وقد سبق له أن نشر عدة مؤلفات في هذا المجال. في السفر الحالي يستعرض الكاتب تاريخ ثمانٍ من أشهر المنافسات السياسية في التاريخ البريطاني الممتد في القرنين الأخيرين. تبدأ هذه السيرة بالمبارزة بين "وليام بت" و"تشارلس فوكس" لتختتم بالنزاع السياسي الدائر بين صفوف قادة حزب "العمال" الحاكم في عهد رئيس الوزراء الحالي براون. وللذين يعتقدون أن الصراع السياسي صراع يدور حول الأفكار وليس الشخصيات، يرد عليهم كامبل بالقول إن الأفكار السياسية لا تزدهر وتحيا إلا بفضل النساء والرجال الذين يحملونها ويعبرون عن مواقفهم منها. ذلك أن ممارسة العمل السياسي تبدأ في الأساس من التنافس على الحصول على السلطة والاحتفاظ بها من قبل المتصارعين حولها. وفوق ذلك كله يضيف الكاتب حجة أخرى في الدفاع عن اعتقاده بوجود بعد شخصي للممارسة السياسية بقوله: لا سبيل إلى تحقيق أي هدف عظيم دون عبقرية القادة الملهمين القادرين على توجيه الآخرين نحوه. وعليه، فلا غرابة في أن يكون الصراع الدائر بين هؤلاء القادة هو ما يدفع العملية السياسية البريطانية فعلاً. وإذا ما نظرنا إلى هذا القول من زاويته الصحفية، فلن نجد من الصحافيين من ينازع "كامبل" في اعتقاده هذا أو يجادله فيه، خاصة أن الصراع الشخصي بين الساسة هو الذي يدفع الصحافة السياسية ويزيد عدد قرائها ومبيعاتها. ورغم تمسك البعض بالاعتقاد بأن على السياسة أن تدور حول القضايا وليس الأشخاص، إلا أن الكثير من الصحافيين يميلون إلى رأي كامبل؛ لأنهم يجدون فيه الصوت الأكثر جهراً وتعبيراً عن "القرصنة الإخبارية" التي تشكل جوهر العمل الصحفي السياسي في واقع الأمر. ويذهب الكاتب ضمن سيرته هذه إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير. فمن رأيه أن اتساع العملية الديمقراطية منذ القرن العشرين وإلى اليوم، قد نتج عنه ارتداد بالممارسة السياسية الحديثة إلى ما كانت عليه في القرن الثامن عشر من تناحر شخصي بين الساسة على السلطة والنفوذ، بما في ذلك من تكالب شخصي على جمع الثروات، وتحقيق مزيد من الامتيازات الاجتماعية والسياسية للمتنافسين. وعليه يستنتج الكاتب أن الممارسة السياسية البريطانية اليوم، ليست سوى لعبة صبيانية تقوم بها طبقة سياسية شديدة الانطواء على خدمة نفسها ومصالحها الخاصة. ولما أدركت عامة الجماهير الناخبة حقيقة هذه اللعبة، لم تعد تأبه لأمر الطبقة الحاكمة، ولا تهتم لأخبارها وشؤونها إلا حين تصدر من قصورها وأبراجها العاجية المنزوية فيها، الفضائح المثيرة للفضول الشعبي العام. ربما يوافق صحافيو The Sun والـDaily Mail على هذه الآراء التي لا يستبعد انعكاس الكشف عن فضائح إنفاق الأعضاء البرلمانيين الشخصي عليها، لكن هل تعني تلك الموافقة البصم على صحتها كما هي وعلى إطلاقها؟ هذا ما ينازع فيه الكاتب كثيرون وينتقدونه عليه. في كل مرة، استعرض فيها الكاتب أحد ثنائيات المبارزات السياسية هذه، كان لا يكف عن إثارة السؤال: لمن كان نصيب الفوز بالمبارزة؟ ثم يتولى الإجابة بنفسه عنه. والآن: من هو الفائز يا ترى بالمبارزة الجارية بين بلير وبراون؟ والإجابة: طالما أن الصراع لا يزال حامياً ومحتدماً، فمن الأفضل الانتظار قليلاً كي نرى. عبدالجبار عبدالله ------- الكتاب: مسدسات في انبلاج الفجر... قرنان من التنافس السياسي المؤلف: جون كامبل الناشر: دار "جوناثان كيب" للطباعة والنشر تاريخ النشر: 2009