فيما يعكف القادة والخبراء على إيجاد حلول معقدة للأزمة الاقتصادية، فإنه يمكن لبعض الممارسات المعمول بها في مجال الأعمال والقائمة على مبدأ التعاون، أن تحول الأزمة الحالية إلى فرصة جديدة لتوحيد قيم اليسار واليمين من أجل تسوية فعالة لما بات يطلق عليه "الأزمة الأخلاقية للرأسمالية" وإطلاق عجلة الاقتصاد مرة أخرى. فالأميركيون في هذه اللحظة عالقون في مأزق أيديولوجي يتراوح بين اعتماد اليسار على التدخل الحكومي والمطالبة بدور فاعل للسلطات الفيدرالية وبين دفاع اليمين الشرس عن الأسواق وإصرارهم على استقلاليتها بعيداً عن أي تدخل حكومي؛ لذا تجد المحافظين من جهة ينتقدون (عن حق) الإنفاق الهائل للحكومة الفيدرالية وانخراطها في شؤون الشركات، ومن جهة أخرى هناك بعض المتدخلين، بدءاً من بابا الفاتكان وليس انتهاء ببيل جيتس، ينتقدون الإفلاس الأخلاقي لنظام اقتصادي يقدم المصلحة الخاصة على ما سواها... مما أدى في النهاية إلى انهيار النظام المالي بالطريقة التي نشهدها حالياً. فلماذا لا ننظر إذن في ظل هذا الوضع في إمكانية إنجاز الرئيس أوباما لرؤيته القائمة على إقرار مبدأ التعاون لحل هذا الاستقطاب بين اليمين واليسار وتفادي تكرار الأزمات الاقتصادية في المستقبل؟ ولماذا أيضاً لا نجمع بين مبدأ المقاولة الحرة التي يركز عليها الجمهوريون والمسؤولية الاجتماعية التي ينادي بها الديمقراطيون؟ وقد يبدو الأمر بعيد المنال في ظل التجاذبات السياسية والأيديولوجية التي تقسم الساحة الداخلية الأميركية، لو لم تكن بعض الشركات ذات التوجه التقدمي قد بدأت بالفعل في انتهاج هذا الطريق بتبني نوع من "المقاولة التعاونية"، التي تضمن إنتاجية أكبر واستجابة أفضل من الناحيتين الابتكارية والاجتماعية لاحتياجات السوق والمجتمع. وللتدليل على هذا التوجه لدى الشركات الأميركية، دعونا نلق نظرة على النماذج التالية: - فقد ازدهرت شركة "هول فودز" المتخصصة في مجال الصناعات الغذائية لاعتمادها فلسلفة تقول "إن الأرباح هي نتيجة منطقية للمعاملة الجيدة للناس، وهي ليست الأولية القصوى"، بحيث ينظم الموظفون أنفسهم ضمن فرق لإدارة العمل في جو من التعاون، بل وتتولى هذه الفرق توظيف عمال جدد واختيار البضائع التي ستطرح في الأسواق، ونظير ذلك يتلقى الموظفون علاوات مقابل الأداء الجيد فيما يكتفي المدير العام براتب لا يتعدى 19 مرة متوسط الموظف العادي في الشركة. - وتبرز في هذا السياق أيضاً "نوكور"، التي تعد إحدى أنجح الشركات العالمية في تصنيع الفولاذ؛ لأن كل وحدة داخل الشركة تنبني على فريق تجمع بينه ثقافة الأداء والتعاون، بحيث يتقاضى العامل راتباً يفوق بثلاث مرات ما هو موجود في السوق، ويعبر المدير العام للشركة عن هذه الأجواء بقوله "إن ثقافتنا تتجاوز أي شيء آخر". - وأخيراً، هناك شركة "جونسون آند جونسون" الشهيرة والمتخصصة في مستحضرات التجميل والتي حققت منذ عام 2006 نسبة نمو وصلت إلى 15% ومازالت تحظى باحترام كبير لطريقتها في العمل بإعطائها استقلالية أكبر لفروعها وإفساح المجال أمام الموظفين والأطباء والجمهور لتحديد المنتجات وحصر الاحتياجات. لكن رغم هذه النماذج التي تعلي من ثقافة التعاون داخل الشركات وتؤسس لأسلوب جديد في الإدارة والتعامل مع الجمهور، تبقى مع ذلك ممارسات محدودة ولم تتوسع بعد في مجال الأعمال بسبب التركة الطويلة التي خلفتها سياسات ريجان الاقتصادية ونهجه المشجع لقيم الفردانية والمنافسة الشرسة، بحيث يكمن التحدي الآن في خلق بيئة تساعد على تكريس علاقات تعاونية ناجحة. لقد أصبحت قيم التعاون اليوم ضرورية بالنسبة لاقتصاد المعرفة؛ لأن هذه الأخيرة تنمو أكثر عندما يتداولها الناس على نطاق واسع، وربما لهذا السبب لجأ المديرون حتى عندما كان الاقتصاد يعتمد على القطاع الصناعي الذي يميل بطبعه إلى الصراع والمنافسة، إلى تبني مبدأ الاقتصاد التعاوني أحياناً للتنسيق مع المنافسين من أجل الوصول إلى نتائج أفضل. ورغم أهمية المسؤولية الاجتماعية والأخلاقيات، فإن الأمر يتطلب تنسيقًا متواصلاً لمواجهة التحديات الجسيمة وخلق قيمة مضافة. وبالطبع، يمكن لهذا النموذج الجديد في تسيير الشركات والتعامل مع السوق أن يجنبنا الأزمات المالية التي يمكن إرجاعها في المحصلة النهائية، كما قال الرئيس أوباما، إلى "تغليب المصالح الضيقة على حساب أي شيء آخر". فلو شُجع مثلاً موظفو القروض في البنوك على التعاون أكثر مع العملاء ومالكي البيوت وتمت مكافأة أدائهم في مجال الرهون الجيدة على المدى البعيد بدلاً من التركيز على الأرباح قصيرة المدى، لما شهدنا الأزمة الحالية. ولا ننس أن الشركات المعاصرة هي عبارة عن نظام اجتماعي واقتصادي متكامل يضم مختلف المتدخلين من مستثمرين وموظفين وعملاء وجمهور، بالإضافة إلى معنيين آخرين لا بد من إشراكهم والتعاون معهم إذا أرادت هذه الشركات تحقيق النجاح. ووفقاً للاستطلاعات الرأي التي شملت مئات المديرين، أعرب 80% منهم عن رغبتهم في تعاون أصحاب الأسهم مع الإدارة، كما أن العديد من الدراسات أثبت أن إشراك النساء في الإدارة العليا للشركات يحسن من أدائها، والسبب هو براعة النساء في نسج علاقات عمل فاعلة. ------- ويليام هالال وإلياس جاريانيس أستاذا إدارة الأعمال بجامعة جورج تاون الأميركية ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"