مثل أحمد الشقيري، وإبراهيم بكر، وأحمد صدقي الدجاني، وإدوارد سعيد، وحيدر عبدالشافي، ومحمود درويش، شكل شفيق الحوت (أبا هادر)، بحضوره الوطني والسياسي والإعلامي الكبير، شكل فصيلاً فلسطينياً حقيقياً قائماً بحد ذاته. بل إن كثيرين استغربوا أن عمره، يوم رحل، كان (77) عاماً فقط. ذلك أن قوة حضوره، في التاريخ المعاصر، جعلت البعض يعتقد أنه قد جاوز القرن! فأين من هذا "الفصيل" الحقيقي تلك "الفسائل" الراكبة -المركبة على أكتاف الشعب الفلسطيني؟! ثم إن فقيدنا الراحل (أبا هادر) مناضل حضاري. عرف، منذ نعومة أظافره، أن الحياة... نضال. أن الحياة... مسألة جادة. لكنه –قطعاً- لم يكن من جماعة "عبس... وتولى"، ولا من "حزب التكشيرة" المتجعد الجبهة والشفاه. كان يتصرف وفق قاعدة أن البندقية والأغنية والمسرحية... إلخ، دوائر متداخلة لا ينتقص أحدها من الآخر. ولا بأس من أن أضيف أن "مجلس العزاء" الحاشد في بيروت (على مدى ساعات طويلة يوميا ولمدة ثلاثة أيام متتالية) كان "ممتعاً"، أي لائقاً بأبي هادر. فعلاوة على بحث كل الشؤون العامة، لطالما أدلى المعزّون بدلوهم فيما خبروه عن أبي هادر من جمل ساخرة ونكات أصيلة تلخص، على نحو "كبسولي" مقنع، مواقف وحقائق بشكل مقنع لطالما نقلت الحضور من "مأتم السياسة" المكفهر إلى عالم مملوء بالضحكات والابتسامات. وذات ظهيرة بيروتية، حارقة ومشبعة بالرطوبة في الثالث من "آب... اللهاب"، كان موكب التشييع الحاشد لجثمان الراحل الكبير ترافقه فرق الكشافة والموسيقى الجنائزية. ذلك الموكب الذي ضم مئات الفعاليات السياسية والاجتماعية (اللبنانية والفلسطينية) وآلاف المواطنين الذين ساروا وراء النعش مدة (40) دقيقة أوصلتنا إلى "مقبرة الشهداء"، حيث ووري الجثمان الثرى. يومها أكرمني الرئيس الفلسطيني وعائلة الفقيد والقوم، إذ اختاروني لتقديم شهادتي بالراحل الكبير –الصديق الغالي والزميل القديم- فانسابت كلمات، عفو اللحظة، استخرجنا من "الفيديو بعضها": والله -يا أيها الغالي- أبا هادر ما كان لنا أن نتوقع هذا (الرحيل المفاجئ) لولا أنها حكمة الله. "فالموت حق" وأنت كنت دوما مع الحق. لذلك، وباسم رئيس وأعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير (أنقل التعازي)، بل أنقل التعازي باسم الفصائل التي هي الآن خارج المنظمة، لكنها بإذن الله وعلى قاعدة اتفاق مارس 2005 ستكون معنا في منظمة التحرير ونكون معها؛ لأن هذا كان حلمك ولأنه كان غاية الأماني عندك وأنت أحد أبرز المؤسسين لهذه المنظمة وأبرز الحراس في الدفاع عنها. ومثلما أن بحر عكا هادر، وبحر حيفا هادر، وبحر يافا وتل الربيع هادر، وبحر غزة هادر، وبحرنا من المحيط إلى الخليج هادر، أنت تعلمت من هذا كله، وهم تعلموا منك، واستحققت لقبك واسمك "أبا هادر". لقد ابتلينا بواحدة من أشرس موجات الغزو، بل إنها الهجمة الغازية الأشرس على امتداد التاريخ. فإن أنت بحثت عن استعمار قديم فهذه هي الصهيونية وإسرائيل. وإن أنت بحثت عن الاستعمار الجديد فهذه هي الصهيونية وإسرائيل. وإن أنت بحثت عن استعمار التطهير العرقي فهذه هي الصهيونية وإسرائيل. وإن أنت بحثت في التاريخ عن الفصل العنصري "الآبارتايد" فأنت تتحدث عن الصهيونية وإسرائيل. (نعم) قد ابتلينا بكل هذه الاستعمارات في آن واحد، لكن أقول لكم، كما كان يقول أبو هادر، وكما كان يقول الشهيد أبو عمار، نقول: نعم ابتلينا بكل هذه الاستعمارات، لكنهم ابتلوا هم أيضاً بشعب فلسطيني عظيم: شعب الجبارين، الشعب الذي هو ابن هذه الأمة العربية. لقد كان الأخ (أبو هادر) مدرسة بل أكاديمية بل جامعة في العمل الوطني. كان رجل وحدة وطنية ورجل مبادئ. لكنه كان يفهم المعادلة الدولية. ومنه تعلمنا الكثير. تعلمنا أن الاعتدال في ظرف معين مطلوب، وتعلمنا (أيضاً) كيف نضع قدمنا، مثلما وضع قدمه، لفرملة الاعتدال المتهافت. ومعه ومعكم، سنتابع برنامج "الحد الأدنى" لمنظمة التحرير. نحن نعلم أن اللجنة الرباعية، وغير اللجنة الرباعية، بل أناس بيننا في هذه الأمة وهذا الشعب، يريدون لنا أن نتخلى عن برنامج الحد الأدنى الفلسطيني، ونحن نقول ما قلتَه يا أخي أبا هادر، ما قلته عندما زارك الأخ الشهيد الرمز أبو عمار وأنت على سرير المرض في الولايات المتحدة، فأوصيته بالقدس ثم بالقدس ثم بالقدس. وكان القائد الرمز أبا عمار أميناً على الأمانة. ونحن معه أمينون على الأمانة. ومثلما استشهد من أجل القدس، فإننا –بالملايين- سنمضي مناضلين حتى لو سقط الشهيد منا وراء الشهيد إلى أن تقوم دولة فلسطين السيدة وعاصمتها القدس الشريف. قبل ما يزيد عن ثلث قرن –يا أيها الغالي أبا هادر- استمعت إليك ها هنا وأنت ترثي أستاذنا، وأحد مؤسسي منظمة التحرير، الأستاذ نقولا الدر. يومها خاطبته قائلاً: علمتنا الكثير يا نقولا، لكنك سامحك الله لم تعلمنا كيف نتحمل هذه الحياة بعد غيابك! واليوم نقول لك يا أبا هادر: قد تعلمنا منك الكثير. لكننا نعتب عليك كونك لم تعلمنا كيف نصبر على هذه الحياة بعد رحيلك! إلا أننا نقتفي دوماً أثر شاعرنا الكبير محمود درويش الذي قال: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، وبالفعل فإن على هذه الأرض ما يستحق النضال، وإن الدولة الفلسطينية لا بد قادمة. رسالة كبيرة علمتنا إياها -يا أخي أبا هادر- (قوامها) أنه رغم النكسات، ورغم الآلام، ورغم النكبات والانتكاسات، ورغم الانقسامات التي ننزف منها هذه الأيام... علمتنا أن كل هذا مؤقت، وأنه لن ينتصر أحد لا على هذا الشعب ولا على هذه الأمة العربية التي آمنتَ بها، طالما أننا حافظنا على الأمل. و"ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل". ونحن نقول إنه ما من جنرال استطاع أن يهزم هذا الشعب العربي الفلسطيني ولا هذه الأمة العربية الكبيرة! جنرال واحد يستطيع أن يهزمها هو "جنرال اليأس"، وهو جنرال ندفنه تحت أقدامنا ولا نيأس. نقاتل ولا نيأس. نتابع مسيرتك ولا نيأس. وإنني لعلى يقين أننا سنعود إلى قبرك هنا قريباً بإذن الله قائلين لك -وأنت تراقبنا من جنة الخلد- إن الوحدة الوطنية قد تحققت. وإن أيدي "فتح" متشابكة مع أيدي "حماس"، مع أيدي "الشعبية" و"الديمقراطية" وكافة الفصائل. فأنت رجل وحدة وطنية، ونحن ندافع عن برنامجك، وهو أيضاً برنامج منظمة التحرير، رغم كل المحاولات الساعية للتطاول على هذا البرنامج... رحمك الله ورحم جميع شهدائنا، وإلى جنة الخلد.