في بداية تسعينيات القرن الماضي، وعلى إثر انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، طرح مفكران أميركيان بارزان، رؤويتين متعارضتين أشد التعارض لمستقبل العلاقات الدولية. تنسب أولاهما إلى فرانسيس فوكوياما، الذي نشر كتابه المعنون "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" في عام 1992. في هذا الكتاب، دفع فوكوياما بفرضية تسوية الصراع الأيديولوجي التاريخي بين الشيوعية والرأسمالية لصالح الأخيرة، بقوله إن الرأسمالية قد حققت انتصاراً حاسماً لا رجعة عنه على الأيديولوجية الشيوعية. وعليه، فالمتوقع أن تتحول الرأسمالية إلى أيديولوجية بديلة للشيوعية وتصبح نمطاً عالمياً، مع العلم بارتباطها بجوهر القيم الغربية وأساسها: حقوق الإنسان الفرد، الديمقراطية، ثم الرأسمالية بالطبع. بيد أن هذه الفرضية أو المفهوم الذي دافع عنه فوكوياما، أثار جدلاً محتدماً بين المفكرين والباحثين والعاملين في أوساط الدبلوماسية والعلاقات الدولية في ذلك الوقت. ومن بين أبرز الذين ناهضوه صمويل هنتنجتون، الأستاذ المعروف بجامعة هارفارد، والذي رد على فوكوياما بكتابه "صراع الحضارات" في عام 1993، والذي كان قد نشرت مقالاته في مجلة Foreign Affairs. في كتابه هذا، أكد "هنتنجتون" أن انهيار الاتحاد السوفييتي يُعد مؤشراً لا ريب فيه على نهاية الصولات والحروب الأيديولوجية التي شهدتها عقود الحرب الباردة السابقة. بيد أن العالم سرعان ما سيعود إلى "طبيعته"، أي أنه لن يخلو من نزاعاته وصراعاته البتة. على أن هذه الصراعات سوف يكون محورها الجديد ليس الأيديولوجيا، وإنما التدافع الديني والثقافي بين الحضارات. بناءً على هذا الفهم، قسم هنتتجون العالم كله إلى ثماني حضارات هي: الحضارة الغربية، حضارة أميركا اللاتينية، الحضارة الإسلامية، الحضارة الصينية، الحضارة الهندية، الحضارة الأرثوذوكسية، الحضارة اليابانية، ثم الحضارة الأفريقية. وضمن الملاحظات التي توصل إليها "هنتنجتون" في تقسيمه وتوزيعه الجغرافي هذا للحضارات، ترجيحه لاحتمال حدوث نزاعات دموية بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى المجاورة لها، خاصة أن الإسلام يقع في منطقة تجاور معظم الحضارات المذكورة. وفي ذلك الوقت، كانت آراء هنتجتون هذه قد ووجهت بالانتقاد والهجوم العنيف عليها من قبل مخالفيه في الرأي. وأبدى هؤلاء اعتراضهم على تقسيمه لحضارات العالم كلها إلى ثماني حضارات، وكأنها منفصلة تماماً عن بعضها البعض، بينما الحقيقة هي أن ثمة الكثير من المصالح المشتركة داخل الحضارات وفيما بينها في آن واحد. وضرب هؤلاء أمثلة عديدة على تداخل المصالح وتشابكها بين الحضارة الغربية وأميركا اللاتينية والعالم الأرثوذوكسي. كما احتج هؤلاء أيضاً بتزايد الوشائج وتنامي علاقات التبادل والتعاون بين الدول الإسلامية من جهة، وبينها وبين أوروبا الغربية، خاصة إذا ما اتخذنا من تركيا مثالاً على هذا التبادل والتعاون. ورغم سخونة وكثافة هذا الحوار الخلافي بين شتى مواقف ورؤى الأكاديميين الأميركيين، طوال عقد التسعينيات الماضي، فإن قلة من عامة الشعب الأميركي أصغت إليه أو أدرجته في قائمة اهتماماتها أو فضولها اليومي. ولعل سبب ذلك الإهمال يعود إلى ما تحقق من رخاء اقتصادي في الداخل، انعكس على حياة غالبية الأميركيين في ذلك الوقت، بينما لم تكن بلادهم قد تورطت في حروب كبيرة في الخارج مثلما هي اليوم. بمعنى آخر، لم تكن السياسات الأميركية الخارجية هماً كبيراً من هموم الأميركيين. لكن وقعت هجمات 11 سبتمبر الإرهابية لتضع حداً لذلك الفردوس الأميركي. فمنذ أواخر عام 2001، أدركت غالبية المواطنين أن هناك أصوليين مهووسين، أذكياء وعلى درجة من العزم والتربص بأميركا ومواطنيها، وأن هؤلاء المتطرفين يتعطشون لرشف دماء الملايين منهم إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ومنذ تلك الهجمات انجذبت أعداد أكبر من الأميركيين -توازيهم أعداد أكبر من الراديكاليين- إلى الأفكار التي نادى بها هنتنجتون. وعليه، فقد أصبح مقبولاً لدى هؤلاء الاعتقاد بأن الأصوليين الإرهابيين الذين يمثلهم تنظيم "القاعدة" يعتبرون تهديداً وجودياً للغرب، طالما أن الهدف الرئيسي بعيد المدى والمعلن من قبل "القاعدة" هو إقامة خلافة إسلامية، مع ملاحظة أن التنظيم لا يداري في تعبيره عن هذا الهدف الاستراتيجي. من جانبها، كانت استجابة إدارة الرئيس بوش لهجمات 11 سبتمبر قد بنيت على أن التطرف الإسلامي هو نتاج طبيعي لفساد حكومات العالم الإسلامي واستبدادها. وعليه، فقد كان لا مناص من محاربة الإرهاب بنشر الديمقراطية وقيم حقوق الإنسان الفردية وإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط على أساسها. والحقيقة أنه لا توجد هناك أية أدلة تدعم أياً من وجهتي النظر السابقتين في تفسير القوانين التي تحكم النظام العالمي الجديد. بل الحق أن الإسلام الراديكالي بات يمثل مهدداً وجوياً للمجتمعات المسلمة نفسها، أكثر مما يفعل للغرب. وتشير المذابح الجماعية التي ينفذها المتطرفون بحق المسلمين، السنة والشيعة على حد سواء، في كل من العراق وباكستان، إلى مدى قوة الصراع الأيديولوجي الثقافي، إضافة إلى عنف تأويلات نصوص الإسلام من قبل الجماعات المتطرفة. وإلى أن يحل هذا النزاع داخل مجتمعات العالم الإسلامي نفسه، فإنه من الواجب أن تبقى مفاهيم الديموقراطية الغربية وحقوق الإنسان وغيرها في المرتبة الثانية من الأولوية والاهتمام. ذلك أن الواجب الأهم هو خوض القادة المسلمين المعتدلين معركة الصراع التي يجب أن تهزم فيها قوى التطرف والراديكالية والعنف. هذا في إطار الرد على مزاعم هنتنجتون. أما في الرد على فوكوياما وما قال به في نظرية "نهاية التاريخ"، فإن علينا تذكيره بأن الأزمة المالية الاقتصادية التي ضربت النظام الرأسمالي في عام 2008، لا تزال أعراضها وتأثيراتها باقية إلى اليوم. بل إن من هم هذه الأعراض والتأثيرات المدمرة، تزايد الشكوك في كون نظرية الرأسمالية الغربية الوسيلة المثلى لتحقيق الرخاء والازدهار الاقتصاديين. كما يلاحظ مؤخراً تزايد التفسيرات البديلة للنظام الرأسمالي، وتعمق الشكوك في مدى جدوى وأهمية الحكم الديموقراطي واحترام حقوق الإنسان... وغيرها من القيم التي طالما استمر الترويج لها على مدى الحقب. بقي أن نقول إن إثارة هذه الشكوك ليست قاصرة على الراديكاليين الإسلاميين وحدهم، إنما تثيرها دول كبرى في عالم اليوم، من بينها روسيا والصين.