هناك حقيقة مؤكدة مؤداها أن الإرهاب أصبح ظاهرة عالمية؛ لأنه انتقل من المجالين المحلي والإقليمي، وأصبح إرهاباً معولماً يوجه ضرباته القاتلة إلى عواصم غربية متعددة، مثل باريس ولندن ومدريد وقبلها واشنطن بطبيعة الحال، التي شهدت الهجوم الإرهابي الشامل في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. والواقع أن مواجهة الإرهاب بطريقة متكاملة تواجه مشكلات مختلفة، ولعل أبرزها أن الاكتفاء بالمواجهة القانونية والأمنية له وإغفال المواجهة الثقافية والمعلوماتية، قد لا يكون هو السبيل الأمثل لتحقيق فعالية المواجهة. ولو ركزنا أولاً على المواجهة القانونية، لأدركنا على الفور أنها تحتاج إلى نظرية قانونية متكاملة، تحيط بأبعاد الإرهاب ومشكلاته المختلفة. ومعنى ذلك أنه مطلوب أولاً المزيد من الدقة القانونية في تعريف الإرهاب كـ\"نوع من العنف يهدف إلى بث الرعب في المجتمع من أجل الوصول إلى نتيجة سياسية أو إلى عائد إجرامي\". ومن ناحية أخرى، ينبغي على من يعرّف الإرهاب أن يحرص على التوازن بين الضرورات الأمنية لمواجهته، ومتطلبات حماية حقوق الإنسان في الدولة القانونية. وهناك بعض المشكلات الحساسة في مجال المواجهة القانونية للإرهاب، والتي لن تحلها مجرد الدقة القانونية في التعريف؛ لأنه في الممارسة كثيراً ما تتوسع الجهات الأمنية في توسيع دائرة الاشتباه بين المتهمين بالإرهاب، أو إطالة فترة اعتقالهم للتأكد من ارتباطهم بالحوادث الإرهابية، مما قد يؤثر على حقوق الإنسان. غير أن المواجهة القانونية تُعد خطوة أولى هي والمواجهة الأمنية في مكافحة الإرهاب، إلا أن التحليل الثقافي للفكر الديني المتطرف الذي يؤدي عادة إلى ممارسة الإرهاب، لا يقل أهمية بل قد يفوق أحياناً المواجهات القانونية والأمنية. وذلك لأن هذه المواجهات تقوم بعد وقوع الجرائم الإرهابية، في حين أن التحليل الثقافي يحاول البحث عن منابع الفكر المتطرف الكامنة في صميم تربة المجتمع، لكي يتولى بعد ذلك انتقاد الثقافيين ممارسة النقد الفقهي والتحليل المعرفي لبيان بطلان المقدمات التي بني عليها وخطورة النتائج التي تترتب عليها. وبالإضافة إلى ذلك، فإن مهمة التحليل الثقافي رسم خرائط معرفية، للتمييز بين الاتجاهات الفكرية المتطرفة المتعددة والمتنوعة وإبراز الفروق النوعية بينها، وكذلك رسم شبكات لتحديد رموزها الفكرية والتي تلعب دور العقول التي ترسم الخطط، بالإضافة إلى قادتها الميدانيين الذين يقومون بتنفيذ الخطط على أرض الواقع. والحقيقة أن الفكر الديني المتطرف فرع من فروع التطرف الإيديولوجي بوجه عام. وهذا التطرف قد يعبر عن نفسه في صفوف الجماعات اليسارية، كما أنه قد يعلن عن ذاته في صفوف الجماعات اليمينية. ولعل جماعة \"الألوية الحمراء\" الإيطالية الماركسية التي قامت في السبعينيات بحوادث إرهابية متعددة تُعد نموذجاً للتطرف اليساري، في حين أن جماعة الكلوكلوكس كلان العنصرية في أميركا، التي تشكلت أساساً لملاحقة السود، تعد مثالاً للتطرف اليميني. ولكن التأمل في مشهد الإرهاب العالمي الراهن يقودنا إلى نتيجة مهمة، هي أن الجماعات الإرهابية الإسلامية أصبحت هي البارزة الآن على صعيد الإرهاب. ولعل تنظيم \"القاعدة\" الذي يقوده ابن لادن والظواهري، يعد أخطر تنظيم إرهابي معاصر؛ لأنه مد خطوط إرهابه إلى باكستان والعراق ودول عربية أخرى متعددة، بعد أن ضرب ضربته الكبرى ضد أميركا في أحداث سبتمبر الشهيرة. وحتى نفهم أصول ومنابع الفكر الديني المتطرف في البلاد الإسلامية، لا بد أن نلقي أولاً نظرة وجيزة على تعريف التطرف الإيديولوجي. والواقع أن هذا النوع من التطرف ظاهرة معقدة؛ لأنه ينطوي على عديد من الأبعاد. فهو -بحسب تعريف معتمد- عبارة عن (أنشطة تتمثل في معتقدات واتجاهات ومشاعر وأفعال واستراتيجيات) يتبناها شخص أو جماعة بطريقة بعيدة عن الأوضاع العادية السائدة بين الناس. وهذه الأنشطة تبرز في مواقف محددة باعتبارها شكلاً عنيفاً من أشكال الصراع بين جماعات متطرفة والسلطة السياسية. وفي مجال تحديد منابع التطرف، يرى بعض الباحثين الثقات أن من بينها الحرمان النسبي، بمعنى سيادة الفقر، والافتقار إلى الخدمات الصحية والغذاء السليم والتعليم والعمل، وكلها تتضافر لكي تشكل مبررات للعنف. غير أن هذا التفسير قد لا يكون صادقاً؛ لأن تنظيم \"القاعدة\" - على سبيل المثال- يقوده ابن لادن، وهو من أكبر الأثرياء، ويساعده في القيادة الظواهري، وهو طبيب مصري ينحدر من عائلة مهنية وبورجوازية لم تشهد الفقر في حياتها. ومن هنا، لا ينبغي اعتماد هذا التفسير الذي قد ينطبق على بعض الحالات، ولكن من المؤكد أنه لا ينطبق على عديد من الإرهابيين الذين تبنوا الفكر الديني المتطرف. وإذا أضفنا إلى تفسير الحرمان النسبي باعتباره أحد منابع الإرهاب، إنكار بعض النظم السياسية للحاجات الإنسانية الأساسية كالحاجة إلى الأمن والكرامة، أو عدم الاعتراف بهوية الجماعات المختلفة ومنعها من الدعوة إلى مبادئها المتطرفة، بالإضافة إلى الفجوة التي تزيد اتساعاً بين ما يعتقد الناس أنهم يستحقونه وما يمكنهم الحصول عليه، كل هذه العوامل أو بعضها، يمكن أن تمثل خميرة للتطرف، خصوصاً حين تسد المسالك المشروعة للتعبير عن احتياجات الناس. ولو رجعنا إلى تعريف التطرف الذي سقناه من قبل، باعتباره يمثل أنشطة تعبر عن معتقدات، واتجاهات، ومشاعر، وأفعال، واستراتيجيات تبناها شخص أو جماعة بطريقة تبعده عن الأوضاع السائدة بين الناس، فقد نستطيع الاقتراب من جوهر التطرف الديني الذي يقوم عادة على مجموعة من المعتقدات التي قد تتفاوت في مرونتها أو جمودها، وتختلف في سطحيتها أو عمقها، وتتنوع في آليات عملها. وبناءً على هذه المعتقدات، يتم غسل مخ لكوادر الجماعات الإرهابية من خلال تنمية اتجاهات بالغة السلبية إزاء مجتمعاتهم ودولهم من ناحية، وتقريظ عملية الانقلاب العنيف عليها، حتى لو أدى ذلك إلى التضحية بحياتهم. وتتم من خلال برنامج للحشد والتعبئة تغذية مشاعر أعضاء الجماعات الذين تم تجنيدهم بكراهية الواقع الاجتماعي الذي يعيشون فيه، تمهيداً لإقناعهم باستراتيجية الانقلاب على الأوضاع، وإقناعهم بالقيام بالأفعال الإرهابية المنوط بهم تنفيذها. غير أن السؤال المهم الذي ينبغي إثارته هو: ما الذي يؤدي إلى ظهور هذه التيارات الفكرية الدينية المتطرفة؟ الإجابة عن هذا السؤال تقتضي تطبيق المنهج التاريخي لدراسة أصول تكوين الدولة العربية الحديثة، والعوامل الخارجية التي أثرت عليها، خصوصاً ظاهرة الاستعمار الغربي، بالإضافة إلى دراسة اتجاهات النخب الوطنية التي قادت شعوبها للاستقلال. ولا بد بعد ذلك من دراسة بنية دولة الاستقلال والأسس الفكرية التي قامت عليها، والصراع الإيديولوجي الذي دار في جنباتها، خصوصاً في مجال الاستجابة للتحدي الغربي والذي يتمثل في أن الغرب كان يمثل نموذج التقدم، في حين أن المجتمعات العربية والإسلامية كانت مثالًا للتخلف. ومن هنا، فإن سؤال النهضة العربية الأولى، وهو: لماذا التخلف وكيف يمكن أن نتقدم؟ واختلاف الإسلاميين والليبراليين والاشتراكيين العرب في الرد على السؤال، يمكن أن يكون مدخلًا مناسباً لصياغة الإجابة. غير أن السلوك الفعلي لبعض قادة الدول العربية والإسلامية المستقلة ونوع الممارسة الفعلية، وعملية الصراع الإيديولوجي التي دارت بين الدولة والأحزاب السياسية من ناحية، وصراع التيارات الإيديولوجية المتنافرة من ناحية أخرى، لا تقل أهمية في فهم جذور الفكر الديني المتطرف. ولا يمكن في هذا السياق تجاهل الأحداث السياسية الكبرى في حياة الأمة العربية، وأبرزها على الإطلاق الهزيمة العربية في حرب فلسطين التي وقعت عام 1948 والتي أعقبها إعلان إنشاء دولة إسرائيل، ثم أخطر هزيمة مني بها العرب وهي هزيمة يونيو 1967. وبالإضافة إلى كل ذلك، هناك عوامل لصيقة بطبيعة الثقافة السائدة في المجتمعات العربية، ومن أهمها جمود الفكر الديني التقليدي وعجزه عن التجدد، واستناد بعض النظم السياسية العربية إلى الخطاب الديني لتدعيم شرعيتها السياسية، وعجز الليبراليين العرب الذين يؤمنون بالعلمانية وبالديمقراطية، عن إنتاج خطاب جماهيري يقنع الكتل العربية بصدقية مبادئهم. وكل هذه عوامل مهمة تضاف إلى قائمة العوامل التي أشرنا إليها. ومعنى ذلك أن لدينا مهمة شاقة لو أردنا تشريح ظاهرة الفكر الديني المتطرف، والتي تتمثل في تحليل كل عامل من العوامل الخارجية والداخلية لبيان الكيفية التي أسهم بها في الظاهرة المقلقة التي تعيشها المجتمعات العربية اليوم، والتي يمكن تلخيصها في عبارة واحدة، هي تطرف ديني سائد، وغياب لوعي ليبرالي وديمقراطي حقيقي!