تحتفي مدينة أصيلة المغربية هذه الأيام بعرس ثقافي عالمي يشارك فيه كتاب وأدباء وشعراء وإعلاميون وفنانون من مختلف أقطار الأرض. جاؤوا إلى أصيلة دون غيرها من مدن العالم ليحتفوا بإبداعهم وفنهم، ويبرزوا المشترك الذي يجمع بين الناس بغض النظر عن معتقداتهم وأجناسهم وألوانهم، وهنا أؤكد أن المشترك الذي جمعهم لا يعني أنه لا يوجد اختلاف بينهم بل الأصل أن هنالك اختلافاً، لكنه اختلاف لا يؤدي إلى الفرقة بل ينمي الإبداع الإنساني ويرقى به. ومما يثير الإعجاب أنك تمشي في طرقاتها فتراهم جميعاً مبتسمين يحتفي بعضهم ببعض، كأن هناك نسباً بينهم أو صلة قربى تجمعهم فتقابل شاعراً موريتانياً وفناناً يابانياً ورساماً إسبانياً وأديباً برازيلياً، وكل ذلك في ظلال فرحة أهل أصيلة وحفاوتهم! ولكن لماذا أصيلة وليس غيرها من المدن الكبرى التي تملك من الإمكانيات البشرية والمادية أضعاف ما تملكه أصيلة؟! إنها نموج للإنجاز البشري والإبداع الإنساني الخلاق في ظل ظروف نستطيع أن نقول عنها إنها شحيحة الموارد إلا من الإرادة الصلبة والعزيمة الصادقة والرؤية الواضحة والعمل الدؤوب لرئيس بلديتها على مدى ثلاثة عقود. والبعض يظن أن محمد بن عيسى وزير الخارجية الأسبق هو الذي صنع هذا، ولكنني أكاد أجزم أن محمد بن عيسى رئيس بلدية أصيلة هو صاحب هذا الإنجاز وليس محمد بن عيسى الوزير، بل إن من منجزات رئيس البلدية أنه صار وزيراً. والمطلوب عادة من رئيس البلدية هو تحسين الخدمات المقدمة للمواطنين وتطويرها، فالمهمة الأساسية حسب ما اعتاده الناس وألفوه هو في مجال الخدمات، ولكن في أصيلة اختلف الأمر فتحولت مهمة الخدمات إلى مشروع ثقافي حقق العديد من الإنجازات الاقتصادية والسياحية والخدمية ليس لأهل مدينة أصيلة وحدها بل تعدى ذلك بكثير، ففي بعده الاقتصادي ترى حركة دؤوبة في أسواقها وفنادقها ومختلف قطاعات الخدمات بها وبالذات في القطاع السياحي، والذي يمثل بذاته نموذجاً أتمنى أن يتكرر في مدننا العربية كلها، فالسائح يشعر بأمن كبير؛ لأنه يلمس حفاوة أهل أصيلة به وفرحتهم بوجوده واستعدادهم لمساعدته إن احتاج لذلك، وهذا يلمسه من الجميع، فلا يجد من يحاول استغلاله أو غشه، بل يلمس بساطة الناس في تعاملهم وفق طبيعتهم الإنسانية. وأما البعد الثقافي، فإن منتدى أصيلة قدم للثقافة العربية ما لم يقدمه العديد من مشاريع وزارات الثقافة في العالم العربي، فهو أولاً خرج من الإطارين المحلي والإقليمي إلى الإطار العالمي فأعطى بعداً عالمياً للثقافة العربية، وعمل على تبني الثقافة العربية بجوانبها المتعددة من أدب ورواية وشعر وفن وغيرها. واستطاع أن يمنح الثقافة بعداً اقتصادياً جعل عامة الناس تتبنى المنتدى وتعمل على إنجاحه، وجعل أصيلة المدينة الصغيرة، رمزاً ثقافياً معروفاً لدى معظم المثقفين في العالم. والأمر الآخر الذي تميز به منتدى أصيلة، هو الاستمرارية على رغم التحديات والعقبات التي واجهته على مر السنين، وهذا بذاته يعد أمراً نادراً في العالم العربي، فالعديد من المشاريع الثقافية تكون بداياتها قوية ثم سرعان ما تتلاشى وتضمحل حتى تنتهي فتصبح أثراً بعد عين. ولكن منتدى أصيلة يزداد عراقة وأصالة عبر السنين، بل إن الكثير من المثقفين الذين كانت لهم مواقف سلبية من منتدى أصيلة سرعان ما أصبحوا من الحريصين على المشاركة فيه؛ لأنهم رأوا قصة نجاح أرادوا أن يكونوا جزءاً منها.