يوم الأحد الثاني من أغسطس الجاري، فجر الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط (60 عاماً) قنبلة في عالم السياسة اللبنانية الشديد التداخل، والبالغ التعقيد، وذلك بإعلانه عن تغيير رئيسي في موقفه السياسي يهدف من خلاله -كما أعلن- إلى النأي بنفسه عن حلفائه \"اليمينيين\"، المناوئين لسوريا، والموالين للغرب في معسكر الرابع عشر من آذار، والعودة إلى قواعده \"اليسارية\" التقليدية وولاءاته القومية العربية. وهذا التصريح بدا وكأنه اعتذار شخصي، أعلن جنبلاط فيه عن رغبته في المصالحة مع سوريا، كما أعرب عن ندمه على مقارباته الودية السابقة لإدارة بوش. ومن الصور الشهيرة التي لا شك في أنه يسعى الآن جاهداً للتنصل منها، تلك الصورة التي التقطت له أثناء زيارة للبيت الأبيض، وظهر فيها وهو يعانق بحرارة وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس. وقد بدا جنبلاط من خلال تصريحه الذي أدلى به منذ أسبوع تقريباً وكأنه يعيد ترتيب الأوراق في المشهد اللبناني. وعلى الرغم من أن جنبلاط سعى بعد يوم أو اثنين إلى تخفيف وقع كلماته، من خلال ادعائه أن تلك الكلمات قد أُسيء فهمها، فإن موقفه الجديد سوف يؤدي، على الأرجح، إلى المزيد من التأخير في تشكيل الحكومة اللبنانية. من الواضح كذلك أن تحالف الثامن من آذار المعارض يأمل - حتى إن بدا ذلك سابقاً لأوانه - في ضم جنبلاط إلى صفوفه غير أن الاحتمال الأكثر ترجيحاً هو أن ينأى جنبلاط بنفسه عن محاولات الفريقين لضمه حتى يعزز من نفوذه وتأثيره السياسي. وكرد على قنبلة جنبلاط، قرر سعد الحريري، رئيس الوزراء المنتخب، وزعيم تحالف الرابع عشر من آذار، الذي فاز في الانتخابات الأخيرة، الذهاب في إجازة \"للتأمل والتفكير في مستقبله السياسي\"، في الوقت، الذي رحبت فيه السلطات السورية - وليس في هذا ما يدعو للدهشة - بالتغير الذي طرأ على موقف جنبلاط، وأعلنت أنها سوف تسعد باستقباله في دمشق. ومن المعروف أن وليد جنبلاط، وهو شخصية غريبة الأطوار، متقلبة الأهواء إلى حد ما، قد ورث زعامة حزبه الاشتراكي التقدمي، وذلك عقب اغتيال والده \"كمال جنبلاط\" عام 1977. وبعد أن تخلص من صورته الأولية كشاب عابث، تمكن جنبلاط عبر سنوات نضجه من التحول إلى زعيم سياسي ماكر يتمتع ببراعة فائقة في التنبؤ باتجاهات الريح في مناخ الشرق الأوسط الدائم الاضطراب. وهناك عوامل شخصية وسياسية عديدة فرضت على جنبلاط -كما يعتقد- اتخاذ خطوته الأخيرة. فهدفه الدائم - وهذا أمر مؤكد- هو حماية طائفته الدرزية، التي وإنْ كان تعدادها لا يزيد عن خمسة في المئة من إجمالي عدد السكان اللبنانيين، إلا أنها كانت دوماً لاعباً رئيسياً في الساحة اللبنانية بسبب قدراتها العسكرية من ناحية، والحنكة السياسية لزعمائها من ناحية أخرى. في الوقت الراهن، يشهد المشهد السياسي في الشرق الأوسط تغيراً، ويسعى الرئيس الأميركي إلى استرداد نفوذ بلاده وسمعتها التي تأثرت بشدة بعد الكوارث التي شهدتها خلال سنوات بوش في الحكم، وذلك بمد يده للعالم العربي والإسلامي بما في ذلك إيران (وإن كانت طهران الغارقة في مشكلاتها الداخلية لم تستجب بعد)، وقيامه بالضغط على إسرائيل من أجل تجميد المستوطنات والسماح بقيام دولة فلسطينية مستقلة. من ضمن التغيرات في المشهد السياسي في الشرق الأوسط أيضاً أن سوريا التي يخطب الأوروبيون والولايات المتحدة ودها في الوقت الراهن، قد تمكنت من الخروج من عزلتها الباردة، وإجبار الآخرين على الاعتراف بها كلاعب لا يمكن تجاوزه في صراعات المنطقة السياسية، والتعامل مع حليفها \"حزب الله\" باعتباره قوة كبرى في المشهد اللبناني. وهناك أيضاً حديث عن تقارب سوري - سعودي، وهو ما يعني إمكانية تحقيق هدنة في الحرب الباردة العربية الطاحنة، وهي كلها -كما نرى- تطورات لا يمكن لوليد جنبلاط تجاهلها. وهناك عامل شخصي له دور في ذلك أيضاً، يتمثل في أن زوجة جنبلاط السورية الأصل، تمتلك منزلاً قديماً رائعاً يقع في قلب دمشق القديمة، وليس من شك أنه عندما تكون العلاقة سيئة بين جنبلاط والنظام السوري، فإن ذلك يعني حرمانه من التردد على هذا المنزل الفائق الجمال. على مدى ثلاثة وعشرين عاماً تقريباً - اعتباراً من عام 1977، وهو عام دموي في تاريخ الحرب الأهلية اللبنانية، وحتى وفاة الرئيس السوري حافظ الأسد عام 2000 - ظل وليد جنبلاط موالياً لسوريا، ومعادياً لإسرائيل، وللأحزاب المسيحية اللبنانية التي اصطفت مع إسرائيل عندما قامت بعدوانها على لبنان عام 1982. ولكن وليد جنبلاط لم يستمر على ذلك، حيث قام عام 2001 بتغيير معسكره والاصطفاف مع عدوه اللدود السابق ممثلاً في الأحزاب المسيحية من خلال تحالف انتخابي. وبعد ذلك، وعقب اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، بدا جنبلاط، وكأنه قد أصبح أكثر قرباً من \"حزب الله\" الشيعي اللبناني الموالي لسوريا. وفي يونيو 2009، عقد جنبلاط اجتماعاً مع الأمين العام لـ\"حـزب الله\" اللبناني بدا وكأنه مؤشر مبكر على الموقف الذي يتبناه الآن. وانشقاق جنبلاط عن التحالف الذي يقوده الحريري -إذا ما وصل الأمر إلى ذلك حقاً- فسوف يثير الشكوك حول قدرة التحالف الإسلامي السني -المسيحي على الهيمنة على الحكومة القادمة. وعلى ما يبدو أن جنبلاط يتبع قلبه بالقدر نفسه الذي يتبع به عقله. فنظراً لنفوره الدائم من المتطرفين المسيحيين اللبنانيين - وعلاقاتهم مع الغرب التي تشبه علاقة العبيد بالأسياد -حسبما يرى- ومشاعرهم المتأرجحة تجاه إسرائيل، فإن الأمر المؤكد هو أنه سيكون أكثر سعادة لوجوده في معسكر القوميين العرب، خصوصاً عندما يكون هذا المعسكر في حالة صعود.