ثمة رسائل متبادلة يجري تمريرها الآن على أرض نيجيريا: رسالة من هيلاري كلنتون تعتذر فيها عن عدم إطلاق خطاب \"أوباما\" في يوليو الماضي للأفارقة من نيجيريا، أو حتى زيارتها بعد إلقاء الخطاب من أكرا تقديراً لحجمها ومكانتها ودورها في غرب أفريقيا، وكقوة إقليمية بارزة على مستوى القارة، وسمعتها الحديثة في تداول السلطة من العسكريين إلى المدنيين. ورسالة أخرى من قبل قوى \"التمرد\"، في جنوب نيجيريا وشمالها، تريد أن تقول لحكومة الرئيس \"يارادوا\" وسنده الأميركي إنه أضعف من ترضية الجنوبيين والشماليين على السواء، وإنه لم يلتزم بصورته التي قدمها كحاكم إقليم شمالي نظيف اليد مرشحاً للرئاسة عام 2007، ووريثاً متحالفاً مع الرئيس السابق \"أوباسانجو\"، الذي رتب له انتقال السلطة بانتخابات عليها الكثير من الملاحظات بل والاعتراضات. فالجنوبيون في الإقليم الشرقي مستودع البترول يشعرون بأن مستوى الفقر يتزايد رغم أن على أرضهم ثروة البلاد الإستراتيجية، وأن السلطة يجري تداولها فقط بين أبناء الغرب والشمال، وهم بذلك محرومون من الثروة والسلطة على السواء. ولأنهم أبناء \"بيافرا\" أصلاً، تلك التي كانت أخطر تجارب الانفصال في وقت ما من الستينيات (أحداث شرق نيجيريا 1966/1970)، فإنهم لم ينسوا هذا التراث المتحدي لسلطة أبناء الشمال والغرب، ويعيش بينهم في أجواء إثارة ملحوظة ودائمة، قائد انفصال بيافرا القديم \"أوجوكوي\"، وشاعر جائزة نوبل \"بول سوينكا\"، الذي ينشر في العالم إعلاماً نشطاً عن تسلط الرجعية الإسلامية في الشمال على مصائر نيجيريا ومقاومة تحديثها. ثم إن حركة الانعتاق الأخيرة لشعب \"دلتا النيجر\" MEND يقودها في المنطقة نفسها مقاتل شرس مثل \"هنري أوكا\" لا يحد من خطره سجن، ولا مقتل أتباع بالعشرات أو المئات. - \"الرسالة الجنوبية\" للإدارة الأميركية، إذن، تبدو حادة، وخطرة بالفعل على المصالح الإستراتيجية، فدلتا النيجر مركز البترول قريبة أو لصيقة بجزيرة \"ساوتومي\" (المستعمرة البرتغالية السابقة)، والمركز المهم للبترول الأطلنطي، ولصيقة أيضاً بمصب أنابيب بترول تشاد في موانئ الكاميرون، وبذلك يشمل التهديد \"المثلث البترولي\" قلب الاهتمام الأميركي الآن بالغرب الأفريقي. دبلوماسية \"هيلارى كلينتون\" النشطة، بين سياسة القوة \"الناعمة\" و\"القوى الذكية\" التي تنتهجها إدارة أوباما- بتعاون \"هيلاري\"- تستدعي ترتيب عددٍ من الأمور في بلدان الزيارة التي شملت سبع دول مهمة. ومثلما يبدو أنها اشترطت توافق رواندا مع الكونجو واجتماع رئيسيهما ما قبل وصول كلينتون إلى كنشاسا وزيارتها الخاصة لشرق الكونجو، فإنها اشترطت على ما يبدو تفاوض الحكومة النيجيرية مع حركة الانعتاق أو التحرير في \"دلتا النيجر\"، لتطمئن الإدارة الأميركية على مستقبل احتياجاتها الإستراتيجية من البترول داخل المثلث المذكور أو خارجه. وقد حدث التفاوض بالفعل في جنوب نيجيريا وخرج \"أوكا\" زعيم الحركة من سجنه، وأعلنت الحركة وقف إطلاق النار لثلاثة أشهر يتم فيها الاختيار المتبادل! وبذلك يتحقق النجاح التقليدي لزيارة هيلاري. لكن نيجيريا ذات دلالة أكبر في السياسة الأميركية، من مجرد كونها سابع أو ثامن دولة بترولية. نيجيريا هي القوة الإقليمية التي حافظت على الأمن في الصراعات الحادة بسيراليون وليبيريا وغينيا وساحل العاج طوال عقد مضى، ونيجيريا قوة وراء حركة التوحيد الاقتصادي لمنظمة \"الإيكواس\" الإقليمية بغرب أفريقيا، ومن خلال قوتها الاقتصادية والأمنية العسكرية تخترق مناطق (الفرانكفون) المنافسة، وتحدّ من نفوذ فرنسا نفسها. - \"الرسالة الشمالية\"، تبدو الآن أكثر خطورة؛ لأن \"إخواننا في الإسلام هناك لا يبدو أنهم مسيسون بقدرٍ كافٍ، وكثيراً ما يتسمون بـ(بالخبط العشوائي) في حالات تمردهم مما يضعهم في مواقع (التخلف)، أو الإرهاب، (أو التصارع الديني)، ناهيك عن الجهوي أو العنصري!\"، لكنها جميعها ترتبط بحالة الإفقار والإقصاء التي تدفع الجنوبيين. ومنطقة أو محافظات \"مايدوجري\" الصحراوية هي من أفقر مناطق نيجيريا رغم زراعات الفول السوداني والقطن...إلخ. وهي ذات تراث سلطاني أيام مملكة \"كانم وبورنو\" المجاورة لبحيرة تشاد، وتأسست فيها أو حولها ممالك الهوسا وثقافة الكانوري! لكن الحركة الإسلامية هنا ليست مجرد ذلك الحدث \"الصوفي\" أو \"السلفي الصحراوي\"، الذي تتكرر أصداؤه منذ أحداث مساجد \"كانو\" أوائل التسعينيات شبيهة بـ\"أحداث الكعبة\"، متصاعدة حتى أحداث المنطقة منذ 2004 وللآن. ويشعر المرء أن \"التراث الجهادي\" منذ المجاهد الأكبر \"عثمان دان فوديو\" في القرن التاسع عشر، وتأسيس إمبراطورية الفولا والهوسا في أنحاء الوسط الصحراوي (سوكوتو - كانو - مايدوجري)، هو الذي مازال يسعى بين شباب نيجيريا الشماليين، ملتحفاً بهزيمة \"المملكة الإسلامية\" أمام \"الحداثة الاستعمارية\"، وظل الشباب مدفوعاً بحالة الإفقار التي لا تتعامل معها الدولة الحديثة منذ الاستقلال، \"السلفية الإسلامية\"، وها هو الجيل الحديث الذي يتحرك بـ\"الرفض المطلق\" للحداثة، ويستسلم بدوره لأنواع من العزلة، يأكل من عمل يده في \"قرية بمحافظة بوشي\" ويلتئم في دعوة \"بوكوحرام\"، أي رفض \"تعليم الكفار الحديث\" أما القوى السياسية الأخرى على امتداد الشمال، والمهيأة بدورها للانتفاض فتقف عاجزة أمام هذا الاندفاع السلفي الانعزالي، أو أمام الحكم المغترب في السلطة والثروة والمعزول بوسائل أخرى، مما يصيب الحكم والمجتمع في نيجيريا بشلل لا تخطئه عين مراقب. وقد قررت إدارة الرئيس \"أومارو يارادوا\" الاستفادة من حالة الشلل هذه لتقوم بتصفية أمنية دموية \"للجماعة\" الإسلامية شملت ما يقارب 600 مواطن، بينما يزور البرازيل للتفاهم حول أسعار البترول، ثم يعود لاستقبال \"هيلاري كلينتون\" للتفاهم حول مركز نيجيريا في السياسات الأميركية الموجهة لأفريقيا. فهل تستطيع نيجيريا المضطربة داخلياً بهذا الشكل أن تقوم بدور ممتد من أقصى غرب أفريقيا إلى حدودها مع وسط القارة (دارفور الكونجو) أو شمال القارة (الجزائر - موريتانيا)؟ وكلها مناطق اضطراب لافتة، تضع السياسة الأميركية \"أمام خيارات شبيهة مرة أخرى بما يجرى مع أصدقائها في الشرق الأوسط، وليست أمامها لحفظ أمن المنطقة عسكرياً إلا قرار المضي في إقامة القيادة العسكرية الأميركية لأفريقيا، بتعاون من يرضى ويساهم في الاستقرار مثل حالة غانا أو رواندا. وليبقى على نيجيريا أن تحدد موقفها من هذه الخيارات بحل شفرة الجنوبيين والشماليين قبل وصول هيلاري كلينتون، أو خلال التفاوض معها.