كتبت هذه السطور قبل إعلان النتائج النهائية للمؤتمر السادس لحركة "فتح" الذي بدأ أعماله في 4 أغسطس الجاري، لكن ثمة مقدمات للحديث عن هذه النتائج وفهمها لا بد على أية حال من تناولها بداية، ولعلّ أولى هذه المقدمات ترتبط بالزمان، أي بتوقيت انعقاد المؤتمر ودلالته، بالإضافة إلى مقدمات أخرى تتعين مناقشتها لاحقاً. أما عن زمان الانعقاد، فهو عام 2009، أي بعد عشرين سنة بالتمام والكمال من عقد "فتح" مؤتمرها الخامس، ويثور التساؤل على الفور عن هذا التأخر الواضح في عقد المؤتمر، وعن السبب في انعقاده الآن بالذات، فانعقاد آخر مؤتمر عام لـ"فتح" منذ عشرين عاماً يعني أن تفعيل هذه الآلية الأولى من آليات العمل الديمقراطي داخل الحركة لم يحدث منذ عام 1989، وبين السنتين (1989- 2009) وقعت أحداث جسام كان كل منها يبرر الدعوة لانعقاد مؤتمر عام لـ"فتح"، وأول هذه الأحداث بطبيعة الحال هو توصل منظمة التحرير الفلسطينية -التي ترأسها حركة "فتح"- إلى "اتفاق أوسلو" مع إسرائيل في1993، وهو اتفاق مثّل نقطة تحولٍ في أساليب النضال الفلسطيني من اعتماد مقاومة الاحتلال بشتى صورها وأشكالها إلى تبني ما سُمّي بعملية التسوية السلمية للصراع مع إسرائيل، وما تعنيه هذه العملية من أن التناقضات الفلسطينية- الإسرائيلية يمكن أن تحل سلمياً، وهو معنى عارضه الكثيرون من الفلسطينيين وغيرهم منذ البداية على أساس الطبيعة العنصرية التوسعية لدولة إسرائيل، واستحالة أن يكون "اتفاق أوسلو" مؤشراً على حدوث تغير حقيقي في هذه الطبيعة، وقد أثبت مرور السنين، على أية حال (ستة عشر عاماً حتى الآن)، أن وجهة النظر هذه هي الأصح، هذا بالإضافة إلى ما أفضى إليه "اتفاق أوسلو" من تجربة فريدة في حركات التحرر الوطني، وهي نشأة سلطة فلسطينية في ظل الاحتلال، وللتجربة دون شك ما لها وما عليها، ولذلك كان منطقياً أن يُدعى لعقد مؤتمر عام لـ"فتح" ينظر في هذا التحول الجذري في أساليب النضال الفلسطيني، وهو ما لم يتم في إشارة واضحة إلى أن كافة خطوات العملية السلمية بين فلسطين وإسرائيل منذ 1993 لم تمر عبر آليات الديمقراطية التي احترمها العمل الوطني الفلسطيني دوماً على رغم صعوبة الظروف الداخلية والخارجية التي واجهها غير مرة، وكانت مصدر فخر لهذا النضال. أما الحدث الثاني الذي كان يمكن لمؤتمر "فتح" أن ينعقد بعده، فقد وقع في عام 2004، وهو استشهاد مؤسس الحركة ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس السلطة الوطنية الفلسطينية في آنٍ واحدٍ، وهو الزعيم ياسر عرفات، وليس ثمة حدث أشد أهمية يبرر انعقاد مؤتمر عام لـ"فتح" من رحيل القائد المؤسس الذي كان يجمع بين يديه كافة خيوط التوازن بين القوى المختلفة في الساحة الفلسطينية، ويكاد ينفرد بتوجيه النضال الفلسطيني في مساراته المختلفة، وكانت الملابسات المحيطة باستشهاده تعطي مبرراً إضافياً لمثل هذا الانعقاد، لكنه لم يحدث أيضاً في إشارة مهمة ثانية إلى غياب الآليات الديمقراطية القاعدية في تسيير العمل الوطني الفلسطيني داخل حركة التحرير الفلسطيني عامة، وفي حركة "فتح" خاصة منذ التوصل إلى "اتفاق أوسلو". وتمثل الحدث الثالث الذي كان يستدعي انعقاداً عاجلاً لمؤتمر عام لحركة "فتح" دون شك في خسارتها الانتخابات التشريعية عام 2006 لصالح حركة "حماس"، وكانت دلالة هذه الخسارة بالنظر إلى نزاهة الانتخابات التي شهد بها المراقبون الدوليون والعرب واعترف بها قادة "فتح" أنفسهم هي أن النهج السائد في "فتح" آنذاك -وهو نهج التسوية السلمية- ربما لم يعد يحظى بتأييد الغالبية من أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة، وكذلك فإن ممارسات بعض قادة "فتح" في السلطة الوطنية ربما أفقدتها ثقة تلك الغالبية، وكانت المحصلة أن الحركة التي أسست للنضال الفلسطيني المعاصر من أجل استعادة الحقوق الفلسطينية التي سلبتها إسرائيل، وقادت هذا النضال لأكثر من أربعة عقود لم تعد تحظى بتأييد الأغلبية في أوساط الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة. وأخيراً وليس آخراً، فإن استيلاء "حماس" بالقوة المسلحة على مقاليد السلطة في غزة عام 2007 كان بدوره حدثاً بالغ الأهمية يمكن أن ينعقد بعده مؤتمر عام لـ"فتح"، ذلك أنه إذا كانت خسارة "فتح" الانتخابات التشريعية في 2006 تعني تآكل شرعيتها السياسية في أوساط الشعب الفلسطيني في الداخل، فإن إخفاق "فتح" في أن تدافع عن وجودها العسكري داخل القطاع، وهزيمتها أمام "حماس" في فترة وجيزة نسبياً كانا يعنيان من ناحية ثانية انهيار قوتها العسكرية داخل قطاع غزة، ولعل ذلك كان واحداً من تداعيات تحول القوة الضاربة لـ"فتح" من مقاومة العدو إلى القيام بدور جهاز الشرطي في دولة لم تنشأ بعد، وما يعنيه ذلك من تراخٍ محتمل في تشكيلاتها العسكرية، وهكذا صفي وجود "فتح" سياسياً ثم عسكرياً داخل قطاع غزة -المعقل الأساسي لحركة "حماس"- واقتصر هذا الوجود على الضفة الغربية ليحدث ذلك الانقسام البغيض غير المسبوق في حركة التحرر الفلسطيني التي نجحت مرات عديدة في تفادي هذا الانقسام، فما بالك وقد حدث وفقاً لخطوط فاصلة بين مشروعين سياسيين متباينين يوجد كل منهما على جزءٍ مما تبقى من أرض فلسطين، ولا شك في أن أحداثاً جساماً كهذه كان من الممكن أن تدفع دفعاً إلى عقد مؤتمر عام لـ"فتح". لماذا الآن وبالذات إذن انعقد المؤتمر على رغم صعوبة الظروف التي أحاطت بانعقاده ومست صدقية تمثيله التيارات المختلفة في حركة "فتح"؟ لقد أدى الخلاف مع "حماس" إلى أن تمنع أعضاء المؤتمر عن قطاع غزة من مغادرة القطاع إلا إذا تم الإفراج عن معتقليها في الضفة وتقديم ضمانات لعدم اعتقالهم مجدداً، وكان لإسرائيل رأي أيضاً في بعض الأعضاء أدى إلى رفضها الموافقة على دخولهم الضفة ومن ثم على مشاركتهم، واختار البعض أن يقاطع المؤتمر لما شابه من وجهة نظره من مخالفات إجرائية جسيمة ناهيك عن أن يكون موافقاً على الخط العام لـ"فتح" المرجح أن يتبناه المؤتمر، فيما تجاهلت السلطة الوطنية توجيه الدعوة أصلاً لعدد من أعضاء المؤتمر المعارضين لهذا الخط العام. أتكون النصال قد تكسرت على النضال، بحيث لم يعد ممكناً من وجهة نظر السلطة الوطنية أن يستمر حال "فتح" على المنوال السائد؟ ومن ثم لا بد من إجراءات ما تعيد للحركة وحدتها وفاعليتها؟ أيكون هناك مشروع ما مطروح على قيادة السلطة من قبل الإدارة الأميركية يتضمن الجديد من الأشواك، وهي تريد من المؤتمر تفويضاً عاماً بسلامة خطها السياسي؟ أو بالأحرى حتى يشاركها الجميع؟ هذه الأسئلة وغيرها الكثير لا يمكن الإجابة عنه قبل أن تتبلور النتائج النهائية للمؤتمر، غير أننا لن نستطيع تقييم هذه النتائج إلا عندما نناقش ما الذي كان يتعين على المؤتمر أن يناقشه أصلاً.