عرف الفكر الأوروبي عدة أزمات خلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وإذا كان من الممكن النظر إلى هذه الأزمات على أنها \\\"أزمات نمو\\\"، فإنه لا يمكن عزلها عن تناقضات النظام الرأسمالي وأزماته. وإذا كان هذا النظام قد تجاوز أزمته آنذاك بواسطة الاستعمار الذي مكنه من ثروات هائلة (مواد أولية بـ\\\"المجان\\\" وأيدٍ عاملة رخيصة، فضلًا عن أسواق واسعة لمنتجاته... إلخ)، فإن ذلك ما كان ليتم لولا ما حصل من تقدم مطرد في العلم والتكنولوجيا. وكان هذا التقدم الملموس \\\"جداً\\\" قد حمل، آنذاك، بعض الباحثين في نشأة الحضارات وانهيارها على القول: إن الحضارة الأوروبية لن تنهار كما انهارت الحضارات السابقة لها؛ لأن التقدم يسير فيها على خط مستقيم بفضل العلم والتكنولوجيا، ولأنها الحضارة الوحيدة التي تقوم على السيطرة على الطبيعة، بدون حدود. فعلاً، لقد بشرت النهضة العلمية التي عرفتها أوروبا في القرن السادس عشر، مع جاليلي وبيكون وديكارت وغيرهم، بشرت بإمكانية \\\"السيادة على الطبيعة\\\" والسيطرة عليها لخير الإنسان. لقد بات من المستطاع إخضاع الطبيعية لمعادلات رياضية وصياغة أسرارها في \\\"قوانين\\\" تمكن الإنسان ليس فقط من تفسيرها بل أيضاً من تغييرها، وأكثر من ذلك إعادة صنع ظواهرها بصورة أكثر استجابة لإرادة الإنسان. نعم، كانت فكرة \\\"السيادة على الطبيعة\\\" واستعبادها حاضرة في الفكر اليوناني، مع أرسطو خاصة، وذلك حينما بدأ العمل اليدوي يستثمر المعرفة النظرية، استثماراً تولد عنه التِّخْني techne، التكني)، أي ممارسة \\\"الحيلة\\\" للتحكم في الظواهر الطبيعية، وهو ما سُمّي بـ\\\"الميكانيكا\\\" mécanique من mêkhanê باليونانية أي آلة، أو استعمال الحيلة للتغلب على ظواهر طبيعية (مكينة). ومن هنا، ترجم علماء العرب مصطلح \\\"الميكانيكا\\\" بـ\\\"علم الحيَل\\\". غير أن \\\"السيادة على الطبيعة\\\" لم تكن تتجاوز في الفكر اليوناني كما في فكر القرون الوسطى أكثر من \\\"تسخير الطبيعة\\\" لفائدة الإنسان باستعمال أدوات وآلات يدوية مثل الرافعة، والمضخة... إلخ. وهذا النوع من \\\"تسخير الطبيعة\\\" لم يعد هو المقصود بـ\\\"السيطرة على الطبيعة\\\" مع قيام العلم الحديث. لقد تطور منهج البحث في الظاهر الطبيعية من مجرد الملاحظة، مع نوع من التجربة الذهنية التي قد تستعين بآلات، استعانتها بالخبرة المكتسبة، إلى منهج علمي قوامه الملاحظة والتجربة المجهزة، ثم استخلاص فرضية لتفسير الظاهرة ثم إخضاع هذه الفرضية لعملية \\\"التحقق\\\" من صدقها، حتى إذا تم \\\"التحقق\\\" ارتفعت الفرضية إلى مستوى \\\"القانون\\\". هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم يعد التعامل مع الظاهرة الطبيعية كما هي معطاة لنا في العالم المعيش، بل كما هي في \\\"قاموس\\\" العلم، حيث تسجل الظاهرة بوصفها كمّاً، وليس كيفاً، بوصفها \\\"كتلة\\\" أو \\\"قوة\\\"، أو \\\"طاقة\\\"... إلخ. إلى هنا، كان العلم الحديث يقطع مسيرته وتقدمه باطراد ودون أزمات تهد كيانه. ولكن عندما بلغ التطور أوجه على هذا الخط، وبدأ البحث العلمي ينتقل من العالم \\\"الماكروسكوبي\\\"، عالم الرؤية بالعين المجردة، إلى العالم \\\"الميكروسكوبي\\\" عالم الرؤية بالمكبرات: عالم الجزيئات والذرات المتناهية في الصغر، ومعه العالم المتناهي في الكبر، حينها لم تعد \\\"الظاهر الطبيعية\\\" -وهي في هذه الحالة لا مرئية، وإنما هي معادلات رياضية- تخضع لقوانين فيزياء جاليلي وديكارت ونيوتن... إلخ، بل باتت تفرض على العلماء تغيير تصوراتهم ومسبقاتهم. وهكذا وجد العلماء أنفسهم على مستوى كل من الرياضيات والفيزياء إزاء أزمة عميقة أطلق عليها اسم \\\"أزمة الأسس\\\"، بمعنى أن الأسس التي قامت عليها الرياضيات منذ اليونان (الهندسة الأوقليدية، فكرة \\\"المنفصل والمتصل\\\") لم تعد تتلاءم مع الكشوف الجديدة، مثلها مثل الأسس التي قامت عليها الفيزياء، منذ جاليلي والتي بلغت أوجها مع نيوتن، لم تعد هي الأخرى صالحة في فيزياء \\\"المتناهي\\\" في الصغر والمتناهي في الكبر... الخ. وهذه الأزمة التي جاءت كنمو طبيعي داخلي للعلم انعكس أثرها بصورة مباشرة على العلم ذاته، وبالتحديد على علاقة العلم بمنهجه: لقد برزت مشكلة جديدة تماماً، مشكلة حقيقة العلاقة بين العلم والتكنولوجيا. لقد كان التصور السائد من قبل أن التكنولوجيا مجرد مساعد للعلم، السؤال العلمي أولاً والتكنولوجيا كمساعد للبحث عن الجواب ثانياً. الفكرة تنبثق أولاً في ذهن العالم، ثم يبحث لها عن وسيلة للتأكد من صحتها، ولم تكن هذه الوسيلة غير الأدوات والتجهيزات الداخلة تحت اسم \\\"تكنولوجيا\\\". لكن قلب التطور الذي حدث الوضع رأساً على عقب. ذلك أن التكنولوجيا التي كانت بمثابة مركبة يركبها الباحث بغية الوصول إلى أهداف يحددها هو سلفاً، قد أخذت تستقل بنفسها وتقود هي ذلك الباحث إلى مجاهيل لم يكن يتصورها، فتكشف له عن أسرار في \\\"الطبيعة\\\" لم تكن تخطر له على بال: إن الباحث في هذه الحالة يتحول إلى \\\"صاعد سلم\\\" إذا ارتقى بإحدى رجليه درجة امتدت رجله الثانية -دون أن يشعر- إلى الدرجة التالية، وهذا إلى ما لا نهاية له. وهكذا، تبين أن التغني بأن العلم الحديث سيمكن الإنسان من السيطرة على الطبيعة بفضل استعانته بالتكنولوجيا ليس سوى وهم. لقد احتوت التكنولوجيا العلم احتواء، وبالتالي صارت هي المتحكمة في العالم/ الباحث، فصيرته كائناً بشرياً أشبه بالآلة، لقد أنْسَتْهُ طبيعته الإنسانية، أنْسَته القيم والأخلاق... إلخ، وصار مأسوراً بالمنطق الذي يحكم الآلة، المنطق الذي يعطيها قيمتها، منطق المنفعة والفعالية. وأكثر من ذلك، تجاوزت التكنولوجيا بمنطقها حدود العالم الباحث المخترع لتضم إليها ذلك الصنف من الناس الذين يمارسون السلطة نيابة عن الحكام بـ\\\"فضل خبرتهم الفنية\\\"، والذين اشتق لهم اسم يحدد هويتهم من لفظ \\\"التكنولوجيا\\\" فأصبحوا يدعون \\\"التكنوقراط\\\"، يمارسون التكنوقراطية التي تعني \\\"النظام السياسي الذي يمارس فيه التكنوقراطيون سلطة مهيمنة على حساب السلطة السياسية\\\". إن التكنوقراطية هي بالتعريف \\\"قتل الديمقراطية\\\"! لقد أصبحت التكنولوجيا، إذن، سيدة الموقف في عصرنا. أما الاعتراض بأن التكنولوجيا \\\"محايدة\\\"، بمعنى أنها يمكن أن تستعمل في الخير وفي الشر (كالطاقة النووية التي يمكن أن تستعمل سلمياً لفائدة الإنسان، كما يمكن أن تستعمل لصنع الأسلحة المدمرة)، فهذا اعتراض مردود من عدة أوجه: فعلاوة على ما ذكرنا من كون التكنولوجيا تلغي في العالم/ الباحث إنسانيته من خلال انسياقه مع الكشف عن أسرار لا حدود لها خارج العالم المعيش، فهي تفعل الشيء نفسه، في الإنسان \\\"التاجر\\\" من خلال جريه وراء الربح وراء شاشات البورصات: الربح خارج مجال النشاط الإنساني. والإنسان هنا لم يعد ذلك الفرد البشري المعروف: \\\"الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق\\\"، بل إنه الشركات \\\"المجهولة الاسم\\\" و\\\"المتعددة الجنسية\\\" ومعها آليات الاقتصاد الرأسمالي المنظورة وغير المنظورة، المشروعة وغير المشروعة... وهكذا، نرى أن مسيرة التكنولوجيا المعاصرة ومسيرة الرأسمالية المعاصرة، مسيرتان متطابقتان: الجري وراء كشف المجاهيل دون حدود في التكنولوجيا والجري وراء الربح بدون حدود في الرأسمالية المتوحشة، وهذا التطابق ينقلب إلى تمَاهٍ، إلى الاشتراك في الماهية، إذا نحن انتبهنا إلى أن التكنولوجيا تقوم على توظيف أقل عدد من العمال واستهداف أكبر عدد من المستهلكين لمنتجاتها، تماماً على غرار الرأسمالية المعاصرة التي شعارها \\\"أقل ما يمكن من العمال وأكثر ما يمكن من الربح\\\". ووراء هذا التماهي بين التكنولوجيا المعاصرة والرأسمالية المتوحشة تكمن وحدة الهدف. إن هدف التكنولوجيا المعلن هو السيطرة على الطبيعة بوصفها مجالًا يحقق فيه الإنسان \\\"السلطة\\\"، أضف إلى ذلك \\\"النتيجة\\\" غير المعلنة، وهي السيطرة على الإنسان بوصفه جزءاً من الطبيعة (التكنولوجيا العلمية، مجال الجينات... إلخ)، تماماً كما أن هدف الرأسمالية المتوحشة المعلن هو تلبية حاجات الإنسان لمختلف السلع لتحقيق مجتمع الرفاهية، مضافاً إلى هذا تسخيرها لجميع الوسائل التكنولوجية العلمية لخلق حاجات جديدة في الإنسان عن طريق تكييف أذواقه واستثارة الرغبة في إشباع غرائزه (\\\"اليقظة\\\" منها و\\\"النائمة\\\")، مع إنشاء مجمعات للسلع \\\"تشتري\\\" لزوارها سلعاً ومواد لم تكن تدخل في قائمة حاجاتهم... إلخ. هذه المعطيات التي تتماهى فيها التكنولوجيا مع الرأسمالية المتوحشة تنتهي بهما إلى هدف واحد، هو السيطرة. وبما أن عملية الجري في كل منهما لا حدود لها ولا غاية ولا أفق، فإن الجري وراء \\\"السيطرة\\\" يصبح هو الآخر من أجل السيطرة نفسها. وأمام هذا الجري المريع نحو \\\"السيطرة من أجل السيطرة\\\"، هل يبقى مجال للحديث عن الحرية والديمقراطية والعدالة المساواة؟ ألم يصبح الإنسان كائناً ذا بعد واحد هو \\\"السيطرة من أجل السيطرة\\\"، إن لم يجد موضوعاً يحقق فيه \\\"السيطرة\\\" اتجه إلى \\\"السيطرة\\\" على ذاته ووضع حدا لها بـ\\\"الانتحار\\\". ألم تصبح التعبئة من أجل \\\"الانتحار\\\" وسيلة لتحقيق السيطرة، تماماً كما أصبحت الاستجابة لهذه التعبئة وسيلة لتحقيق الذات، أعني تحقيق السيطرة عليها.