هناك حركة اجتماعية بدأت تتنامى في أقصى اليمين السياسي الأميركي تهدد بتسميم مستقبل البلاد، وهي في مفهومها التقليدي حركة وليست تنظيماً سياسياً، فهي لا تقوم على هيكل تنظيمي واضح، ولا تتطلب استيفاء شروط معيارية للالتحاق بعضويتها لمن يرغب. ثم إنها تمثل تيارات يائسة متباينة، نشأت وليدة لحظة التحولات السياسية والصدمات التي تلقتها أميركا خلال العقود الأخيرة الماضية. وقد اتخذت هذه الحركة لنفسها أشكالاً متعددة. فهناك المليشيات المسلحة المعادية للمهاجرين. وتنشط هذه المليشيات في تنظيم الدوريات التي تهدف إلى حماية الحدود الجنوبية من المتسللين غير الشرعيين. وهناك المحتجون والمتظاهرون ضد الضرائب. ويعبر هؤلاء عن غضبهم واحتجاجاتهم ويعترضون اللقاءات التي يعقدها أعضاء الكونجرس مع ناخبيهم في المدن والبلدات، رافعين لافتاتهم الاحتجاجية وهتافاتهم المنددة بالضرائب والمطالبة بإصلاح نظام الرعاية الصحية. ثم هناك المعارضون \"الميلاديون\" (أي أولئك المناهضون لمواطنيهم غير المولودين داخل أميركا). وعلى رغم أن هؤلاء يمثلون قسماً ضئيلاً من اليمين الأميركي، إلا أنهم يواصلون الآن إثارة الشكوك والتساؤلات حول مسقط رأس الرئيس أوباما. ويرجح هؤلاء مولده خارج الولايات المتحدة، ما يحرمه من حق تولي رئاستها. وإذا كان ثمة قاسم مشترك واحد يجمع بين هذه التيارات جميعاً فهو شعور المشاركين فيها بالغضب والهامشية والإقصاء، الأمر الذي دفعهم إلى اتهام الحكومة بكونها هي المصدر الرئيسي لمشكلاتهم، وهو ما يجعل منها هدفاً رئيسياً يصبون عادة جام غضبهم عليه. وخلف كل مشاعر الضغينة والغضب اليميني هذه، هناك مشكلات حقيقية بالطبع. ذلك أن الأزمة الاقتصادية التي تواجهها أميركا الآن لم تبدأ بانهيار النظام المالي في العام الماضي فحسب. فعلى امتداد عدة سنوات مر الاقتصاد الأميركي بتحولات مستمرة، وتكشفت خسارة اقتصادنا القومي لقاعدته الصناعية الرئيسية عن زلزال اجتماعي دراماتيكي شهد عليه الانهيار المأساوي للكثير من مجتمعاتنا التي كانت تنعم بالازدهار والرخاء والاستقرار حتى إلى وقت قريب. إذ لا يعني إغلاق كبريات المصانع مجرد خسارة العمال والموظفين لوظائفهم فحسب، وإنما يعني أيضاً إرغام المجتمعات المقيمة حولها على الهجرة من أماكن إقامتها الطويلة السابقة، ما يعني موت البلدات المجاورة وتهديد الاستقرار الأسري. وعلى رغم ما حققته أسواق \"وول ستريت\" من مكاسب طوال عقد التسعينيات الماضي، إلا أن ضمور الطبقة الوسطى الأميركية لم يتوقف لحظة واحدة. ومعها تضاءلت الدخول الحقيقية للأفراد، بينما ارتفعت تكلفة التعليم والرعاية الصحية وأسعار السلع. ولم يكن انخفاض المستوى المعيشي لعامة الأميركيين هو النتيجة الوحيدة لهذه التحولات، بل كان من نتائجها أيضاً تزايد قلق الطبقة الوسطى الأميركية وتساؤلها للمرة الأولى في التاريخ الأميركي عما إذا كان أبناؤها وبناتها سينعمون بذات الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية التي نعم بها آباؤهم وأمهاتهم؟ ثم تضاف إلى هذه الصدمات الاجتماعية النفسية كلها، ويلات هجمات 11 سبتمبر وكارثة إعصار كاترينا ليزداد الطين بلة. فقد زعزع هذان الحدثان على نحو غير مسبوق شعور الأميركيين بالأمن وثقتهم الدائمة في قدرة حكومة بلادهم على الفعل والتصدي للأزمات. وفوق ذلك كله هناك التنامي الحالي للنزعات العنصرية- العرقية التي يثيرها المواطنون الأصليون ضد العرقيات المهاجرة -خاصة ضد المسلمين في أعقاب هجمات 11 سبتمبر- إلى جانب تنامي نزعة الكراهية للسود، وهي جميعها مشاعر تعمل على تسميم الأجواء الاجتماعية والسياسية في البلاد. وعلى رغم فجاجة وبساطة بعض هذه المشاعر، إلا أن هناك من يؤجج نيرانها في مسعى منه للاصطياد في مياهها المسمومة العكرة. وكما نلاحظ فقد استضافت البرامج الحوارية التلفزيونية الراديكالية شخصيات يمينية متطرفة مثل \"رش ليمبو\" و\"مايك سافيج\" بل لقد سعت شبكتا \"فوكس نيوز\" و\"سي إن إن\" في بعض برامجهما لاستثمار مشاعر الغضب الشعبي هذه، تماماً مثلما استغلها من قبل \"كارل روف\" مستشار الرئيس السابق جورج بوش في هندسة الحملة الانتخابية لرئيسه. وربما يلزم التذكير أيضاً بأن حملة الترشيح الرئاسي التي خاضها كل من جون ماكين وهيلاري كلينتون لانتخابات عام 2008 لم تخلُ هي الأخرى من استغلال بعض من هذه المشاعر. والخوف الآن أن تنتهي أميركا إلى الوقوع بين جدران هذه السموم اليمينية المتطرفة ما لم تسارع القيادة للتصدي لها ووقفها عند حدها، مع معاقبة من يستثمرونها ويستغلونها لخدمة أجنداتهم الخاصة.